كان ذلك عام 1967، بعد الهزيمة الحزيرانية، وكان العالم يغلي. تشي غيفارا يدعو إلى خلق أكثر من فيتنام واحدة في العالم، والفلسطينيون يستعيدون هويتهم بالشعر والبندقية، وطلاب العالم يستعدون لاحتلال الشوارع، وبيروت تغلي. صادق العظم ينشر كتابه عن النقد الذاتي بعد الهزيمة، ومعركة الكرامة تحوّل المقاومة الفلسطينية إلى حلم عربي. يسار جديد يولد، ويسار قديم يتجدد، كل شيء يوحي بأننا على العتبة، وبأن موعد الثورة بدأ يقترب.
وحين قضى تشي غيفارا، وتحول موته إلى أغنية كتبها أحمد فؤاد نجم وغناها الشيخ إمام، بدا وكأن الثورة قد عثرت على نبيها االمقتول.
كنا نقرأ صحيفة «الغرانما»، ومجلة «القارات الثلاث»، يسحرنا اعتقال ريجيس دوبريه في غابات بوليفيا حين كان المثقف يبحث عن «الثورة في الثورة»، تعصف بنا الأفكار التروتسكية والماوية، نقرأ جورج لوكاش، ونحلم بأننا جيل القدر.
يومها كانت كوبا فيديل وتشي، مخرجا لنا من ثقل الفكر السوفياتي المحنّط، ومن ماوية بدت غامضة في ثورتها الثقافية وستالينيتها، ومن ارث البكداشية الذي شلّ الفكر والروح.
صارت كوبا بثورتها الفتية وشجاعة مناضليها الذين صدّوا الغزو الأمريكي، لاهوتنا الثوري الجديد، وكانت الأفكار الغامضة التي حملها ثوريون تمركسوا بعد انتصارهم، مدى رحبا، يكسر التقاليد الشيوعية الصارمة، ويفتح صفحة جديدة انتجت لاهوت التحرير الذي صنعه رهبان كاثوليك ثوريون، كانوا ماركسيين على طريقتهم.
كانت كوبا جزيرة الحلم، أسقطنا عليها أحلامنا الغامضة، وذهبنا إلى تجربة العمل مع المقاومة الفلسطينية في لبنان، لنكتشف بعد سنوات وبعد موت الكثير من الرفاق والأصدقاء، أن الثورة ليست حلماً، بل هي أشبه بالكابوس الذي لا بد منه أحيانا، وتلك حكاية أخرى.
الأيام فرضت على ثوار كوبا التحوّل إلى سلطة، وبدأت خيباتنا الصغيرة تتوالى، وخصوصا بعد الموقف الكوبي المؤيد، ولو على مضض، للغزو السوفياتي لتشيكوسلوفاكيا، وسحق ربيعها المبكر، وإشارات القمع الذي بدأت ترشح معالمه. لكن لسبب غامض، بقيت كوبا وبقي فيديل كاسترو، فوق أي محاسبة، كأن سحراً ما كان يحوط بهذه الثورة، ويجعلها خارج كل معادلة المحاسبة الديموقراطية.
لا أستطيع أن أحدد ملامح هذا السر الذي جعل خوليو كورتثار وغابرييل غارثيا ماركيز وآخرين أصدقاء لفيديل وثورته حتى النهاية.
ربما لعب موقع كوبا وحصارها الطويل من قبل اليانكي الأمريكي دورا كبيرا في هذا الرباط العاطفي الذي جعل فيديل خارج سرب المستبدين الشيوعيين من ماو إلى كيم ايل سونغ إلى آخره… فيتنام بثورتها ومقاومتها ، فقدت بريقها لحظة انتصارها. اما فيديل فلم يفقد بريقه، حتى في كهولته، وبعدما تنازل عن السلطة، بقي الرجل رمزا. الصورة تهالكت مع الزمن، لكن روحه بقيت عالية، وكأنها نجحت في تحدي رمزية موت تشي غيفارا برمزية الحياة.
فيديل لم ينهزم مثل غيفارا، لكنه أيضا لم ينتصر مثل ماو. صمد في كوبا، لكن مشروعه الثوري الأمريكي اللاتيني مني بهزائم متواصلة، من انهيار حلم تعميم الثورة في أمريكا اللاتينية، إلى مقتل الليندي في التشيلي بعد الانقلاب الدموي الذي رعته وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، وصولا إلى التخلي الروسي بعد البريسترويكا الذي أوصل كوبا إلى حافة الإفلاس الاقتصادي.
لكن «الرجل» أو «الحصان»، مثلما يسميه الكوبيون، عرف كيف يحافظ على السلطة وسط أعاصير التاريخ. «سينصفني التاريخ»، قال كاسترو في محاكمته بعد فشل محاولته الثورية الأولى، لكن التاريخ يشبه الدهر في تقلباته. التاريخ لا يؤتمن، أنصف كاسترو بعد انتصار ثورة الحالمين الملتحين، ثم خانه، وتركه يصارع حتى الرمق الأخير من أجل البقاء في السلطة.
«الحصان» الذي بقي معلقا بين النصر والهزيمة حافظ على غوايته الثورية، رغم أنه خيّب آمال المثقفين اليساريين في العالم الذين أبهرهم نقاء بدأ يتداعى مع الموقف من ربيع براغ عام 1968، ووصل إلى إحدى ذراه، حين نظّم اتحاد الكتاب الكوبيين محاكمة للشاعر هبرتو باديّا عام 1971، انتهت بقيام الشاعر الكوبي بنقد ذاتي مشين ومهين على الطريقة الستالينية. عندها بدأت ترتسم الحدود بين حلم الثورة وواقع السلطة، واكتشفنا كيف أن اللقاء بين الحلم والواقع لم يكن أكثر من أمنية، وكيف لا يستطيع الثوري أو الشاعر أو الفنان، أن يدخل في دهاليز سياسة السلطة وسلطة السياسية، إلا إذا نحى الحلم جانبا.
هذا كان درس ماياكوفسكي منتحرا بعد انتصار البلاشفة، وهذا هو درس الحلم الغيفاري الذي هرب من السلطة إلى غابات بوليفيا كي يواجه مصيره المأسوي.
غير أن نقد الثورة الكوبية التي واجهت حصارا لا مثيل له في التاريخ المعاصر، من موقع نيوليبرالي يجد اليوم في المستبد السوري حليفا، أو من موقع لا تاريخي يقدّس الرأسمال المتوحش ويتناسى أن الجزيرة الصغيرة، واجهت أعتى قوة امبريالية في التاريخ وصمدت، هو نقد لا أخلاقي.
روى نقولا الشاوي، الأمين العام الأسبق للحزب الشيوعي اللبناني، أن فيديل كاسترو سأله في عشاء جمعهما في هافانا، «من أسعد رجل في العالم»؟ وعندما لم يجد الشاوي جوابا، أخذ كاسترو نفساً من سيجاره وقال إنه البابا. ولما سأله عن السبب، أجاب «الرجل»، لأنه يرى كل يوم أمامه تمثال سيده مصلوباً، فيشعر أن لا سيد له.
هل كان فيديل يتحدث عن نفسه أم عن الشعب الكوبي؟
هل كان فيديل يحلم بأن يهرب من السلطة ويصير كاتباً حراً مثل صديقه الروائي غبريال غارثيا ماركيز؟ أم كان يعلم أنه في نهاية الحكاية لن ينتصر سوى الموت، الذي هو أجمل رواة الحكايات وأكثرهم قسوة.