لماذا لم يرتقِ التعليم المدرسي والجامعي، والتنشئة الأسرية والمجتمع، بالمستوى الفكري والاجتماعي للشباب إلى الحدّ الذي ينشئ سلوكا اجتماعيا سلميا وراقيا؟ وذلك برغم اتساع نطاق التعليم.
السؤال بدهي، والإجابة واضحة ومكررة. ويبدو أن السؤال الذي يجب أن نواجهه هو: لماذا لم تراجَع المنظومة التعليمية والاجتماعية والثقافية على النحو المنسجم مع أهداف الدولة والمجتمع؟ وربما يكون السؤال الحقيقي: هل نريد بالفعل مواجهة العنف المجتمعي والجامعي، أم أننا نمضي إلى الكراهية والعنف والصراع الاجتماعي بوعي مسبق؟
يبدو طبيعيا ومتوقعا القول إن أحدا في البلد لا يريد العنف ولا يؤيده. ولكننا نريد “سلما اجتماعيا” بلا تعليم متقدم مكافئ للغاية؛ ونريد اعتدالا بلا تعليم وتنشئة في التفكير الحر والعقلاني والنقدي؛ ونريد كفاءات متقدمة علميا واجتماعيا وسلوكيا من غير تطوير المؤسسات التعليمية والاجتماعية؛ ونريد التماسك الاجتماعي من غير عدالة اجتماعية وتوزيع عادل للفرص؛ ونريد تطوير الأسواق والاقتصاد والمجتمعات من غير تنافس عادل؛ ونريد مجتمعات مشاركة في الإصلاح والتنمية والأسواق من غير مؤسسات وقواعد وقيادات اجتماعية ومهنية مستقلة وفاعلة؛ ونريد شبابا مبدعين ومتفوقين ومنشغلين بالعلم والعمل العام والتطوعي من غير مناهج إبداعية ومن غير اهتمام بالإبداع ومن غير أساتذة أكفاء مبدعين؛ ونريد شبابا يشاركون في الحياة العامة من غير أن نمكّن لمؤسسات سياسية واجتماعية حقيقية وقادرة… لا يمكن تجاهل أن ثمة قدرا كبيرا من التخطيط للفشل، وأن الفشل تحول إلى مصلحة لفئات وطبقات راسخة ومتنفذة، وأنه في اللحظة التي يجري فيها إصلاح حقيقي فإن طبقات ومصالح قائمة سوف تتبخر!
ويبدو بدهيا القول إن المناعة الفكرية تحمي الأفراد والمجتمعات من العنف والتطرف والتعصب والكراهية. ولكن ذلك يقتضي، بطبيعة الحال، تشكلات فكرية شاملة لا تقتصر على الحماية من التطرف، وإنما تعني أفرادا فاعلين ومستقلين يصعب خداعهم وقيادتهم من غير مشاركة عامة.
لكن تحقيق هذا الهدف لا يمكن أن يكون خطة واضحة أو برنامجا محددا، أو بعبارة أكثر دقة: فإننا لا نملك دليلا واضحا ومجمعا عليه لأجل تعزيز الأمن الفكري أو لتعريف ثقافة السلام! والسلم الاجتماعي ليس وصفة جاهزة تملك تعريفا واضحا يمكن الاحتكام إليه أو الاستدلال عليه. ولا يملك أحد أيضا السلطة الفكرية أو الأيديولوجية ليقدمها للناس؛ ليس سوى العقد الاجتماعي الذي تنتظم حوله أغلبية الناس، لا باعتباره سلاما في الحقيقة ولكن لأنه يعبر عن اجتهاد الأغلبية في رؤيتها لمصالحها وعلاقاتها. ما يعني بالضرورة أننا لأجل السلام يجب أن نظل ملتزمين بالمراجعة والتصحيح، على نحو دائم ومؤسسي ومتقبل. وهو عقد وإن كان يتناقض مع التطرف والتعصب، فإنه يتعارض أيضا مع الاستبداد والظلم والإقصاء والتهميش الاجتماعي والاقتصادي.
لا تكفي تلك الاحتفالات الإيجابية لإظهار التضامن والتماسك. ولعلها تخفي من الهشاشة والضعف أكثر من المنعة والتماسك!