تتلاشى الفوارق بين ظاهرتي «الحشد الشعبي» في العراق و «حزب الله» في لبنان. الأول ميليشيا مذهبية شيعية تمولها، رسمياً، الحكومة العراقية ويديرها الحرس الثوري الإيراني، والثانية ميليشيا مذهبية شيعية تعترف الحكومة اللبنانية بحقها في الوجود والعمل ويديرها أيضاً الحرس الثوري الإيراني.
والحال أن هذا التشابه راح يُغذي تشابهاً موازياً بين الأشكال الاجتماعية والسياسية للجماعتين في علاقتهما مع مجتمعي وبلدي المنشأ.
لكن التشابه لم يكتمل مصادفة، ذاك أن الحرس الثوري الإيراني لا يرى في الجماعات الشيعية خارج إيران سوى جسور صغيرة لحلم إمبراطوري، غير متبلور عقلانياً، لكنه يحضّ الخطى نحو التحول إلى واقع، على رغم الأكلاف الهائلة التي تترتب عليه. ولطهران هنا قصب سبق في التاريخ، ذاك أن الظاهرتين، «الحشد» و «الحزب»، يشتركان بفرادتهما كنموذجين غير مسبوقين في تاريخ الدول الحديثة.
النظر إلى العرض العسكري الذي نفذه الحزب في بلدة القصير السورية، يبقى خرافياً في أهدافه إذا لم يُنظر إليه انطلاقاً من المهمة الموكلة إلى الحزب في إطار المسعى الإيراني لجَسر مساحات هائلة من الديموغرافيا السنّية المعيقة حلمَ الإمبراطورية الافتراضية. تناول الخطوة الغريبة التي أقدم عليها الحزب تم بالنظر إليها في ارتداداتها ووظائفها اللبنانية والسورية، وأُغفلت الوظيفة الإيرانية للعرض العسكري. فلبنان ليس وحده الذي تعني الخطوة أنه مجرد «بلد سابق»، وسورية أيضاً بنظامها وحكومتها الرسمية ليست وحدها التي جرى عرض عسكري لـ «جيش» غريب على أرضها. الوقائع العراقية متصلة بما جرى في القصير. هناك بالقرب من مدينة الموصل ثمة من يسعى إلى جعل المساحات المنتزعة من «داعش»، ساحات ومعابر لا تخضع لسلطة واضحة ومضبوطة في منظومة العلاقات التي ترسيها فكرة الدولة.
هادي العامري قال أن «الحشد» سيكمل المهمة في سورية بعد هزم «داعش» في العراق. وهناك في شمال العراق، ثمة «قصير عراقية» تقيم فيها أقلية شيعية وأكثرية سنّية، تماماً مثلما تنتشر قرى شيعية قليلة بالقرب من القصير قال «حزب الله» في بداية حربه هناك أنه ذاهب لحمايتها. والقصير العراقية ليست الموصل طبعاً، إنما مدينة تلعفر التي يبدو أن ثمة إقراراً عراقياً وأميركياً بأن «الحشد»، وليس الجيش العراقي، الذي سيتولى خوض المعركة مع «داعش» فيها.
التشابه بين «القصيرين» السورية والعراقية احتاج أحلاماً إمبراطورية حتى تحقق، لكنه اليوم واقع تسنده مآسٍ وتنتظره أخرى. فتلعفر، إذا ما استعنا بالخيال الإيراني، ستتحول معبراً يصل الحدود الإيرانية والعراق بالحدود السورية.
هذا واقع غير متحقق الآن، وتحققه يتطلب «ترانسفيراً» للسكان السنّة لمحافظة ديالا، ومن يراقب الوقائع العراقية يعرف أن جزءاً من هذه المهمة أُنجز، وجزءاً آخر سيستعاض فيه عن «الترانسفير» بإخضاع الجزء المتبقي من السكان، وهذه أيضاً مهمة أنجز بعضها.
قفزة إلى المقلب الآخر من المشهد، إلى القصير السورية، تكشف أن الوقائع متطابقة. وإذا كان «حزب الله» عالقاً بين حقيقة أنه نجح في إفراغ مدن وبلدات ريفَي دمشق وحمص من سكانها السنّة، وبين الواقع الثقيل المتمثل في أن عدداً كبيراً من هؤلاء السكان نزح إلى لبنان ويشكل اليوم عبئاً مذهبياً عليه في بلد المنشأ، فها هو يسعى وبمساعدة نخب سنّية لبنانية حاكمة، أو تتوهم أنها حاكمة، إلى حل هذه المشكلة عبر مشروع خيالي أيضاً يتمثل في نقل جزء من اللاجئين إلى شمال سورية.
وهنا تحضر، وفي مقابل المقارنة بين «الحشد» و «الحزب»، مقارنة موازية بين النخب السنّية التي اختارها «الحزب» و «الحشد» شركاء ضمنيين لهما في هذه المهمة. فإغراق التمثيل السنّي في البلدين بالفساد يبدو قاسماً مشتركاً، وإذا كانت حقيقة التمثيل متفاوتة بين الجماعتين السنّيتين اللبنانية والعراقية لمصلحة الأولى، فالمرء لا يقوى على مقارنات بين نهاد المشنوق مثلاً وأثيل النجيفي، أو بين شقيق أثيل، رئيس مجلس النواب العراقي أسامة النجيفي، وسعد الحريري.
لكن، يبقى الأهم أن هذا المشهد على افتراضيته ينطوي على احتمالات زلزال ديموغرافي مأسوي، لا سيما أن افتراضيته لم تضعف التصميم الإيراني على إنجازه، وأنه لا يبدو أن ثمة مقاومة صلبة له. فوصل القصير بتلعفر، رمزياً على الأقل، يفترض خطوات لا يبدو أن الإيرانيين يقيمون وزناً لتبعاتها. هم يعتبرون أن الحاجز الكردي السوري سيُبدده تحالفهم مع «حزب العمال الكردستاني» الذي سيتولى أيضاً عقبة مدينة سنجار العراقية التي يبدو أن لحزب العمال نفوذاً فيها يفوق نفوذ الأحزاب الكردية العراقية.
السيناريو الإمبراطوري الإيراني يعوقه الكثير من الحقائق حتى الآن: القاعدة التركية القريبة من بلدة بعشيقة العراقية، والبؤر الديموغرافية السنّية بدءاً من بعقوبة في العراق وصولاً إلى حمص في سورية. لكن المؤشرات إلى مباشرة طهران مشروعها كثيرة، وهي مؤشرات مذهلة في وضوحها. ففي ضوء ماذا يمكن المرء أن يُفسر إقدام حزب لبناني على إجراء عرض عسكري في بلد آخر؟ أو أن يقول هادي العامري أن مهمة «الحشد» ستنتقل إلى سورية بعد العراق؟
هذا ما لم يسبق لـ «ميليشيا وطنية» أن جاهرت فيه.
يحصل ذلك في ظل تحول هائل يعصف بالجماعات الشيعية أينما وجدت. زائر جنوب لبنان سيلاحظ شبهاً مستجداً بينه وبين جنوب العراق على مختلف المستويات، بدءاً من العمارة الناجمة عن طفرة الصعود، مروراً بالسيارات صاحبة الزجاج الأسود التي كتب عليها «رافضي 313»، وصولاً إلى الجنازات الآتية من سورية في الحالة اللبنانية، ومن شمال العراق في الحالة العراقية، وما يرافق هذه الجنازات من تكثيف للطقس المذهبي.
وإذا كان الجسر «الإمبراطوري» الذي تسعى طهران لإقامته عبر الحروب، من حدودها مع العراق في ديالا وصولاً إلى سورية ولبنان، فإن الجسر الذي يتولى إيصال الشعائر المذهبية عبر تكثيف العلاقات بين الجماعات الشيعية، يتولى اليوم إذابة ما علق في بنية هذه الجماعات من خبرات «وطنية» في الدول التي كانت جزءاً منها، والشيعي اللبناني سيشبه الشيعي العراقي أكثر من مشابهته لبنانياً آخر.
المجلس الحسيني الذي أقامه حجاج شيعة إلى العراق في مطار بيروت لا يقل في دلالاته، على هذا الصعيد، عما جرى في القصير وما سيجري في تلعفر.