فوز دونالد ترامب ظاهرة جديدة في تاريخ الديموقراطيات الغربية. ولا يمكن فصلها عما تعانيه ضفتا الأطلسي. فوزه اعتراض جلي على ما تمثله النخب والأحزاب والنيوليبرالية ومؤسساتها. جاءهم من خارج الثنائية الحزبية وإن سلم له الجمهوريون القياد مرغمين. ألم يتوعدهم بإفراغ «المستنقع» وتنظيف البيت الأبيض والمؤسسات الحاكمة في واشنطن والتي تحكم قبضتها على كل شيء؟ إنه زمن العودة إلى الوطنية ومفاهيم القومية والسيادة المطلقة التي طواها العالم وهو يخرج من تحت أنقاض الحرب العالمية الثانية. والتعبير الصارخ عن الاعتراض على العولمة والتجارة الحرة اللتين كسرتا كل الحدود. وهددتا النسيج التقليدي للمجتمعات. إنه اعتراض على انتقال البشر والرساميل والسعي إلى بناء الجدران ورفع الحواجز في وجه المهاجرين والشركات العابرة للقارات. إنه زمن الخوف من التغيير ومن الآخر. زمن التحولات الكبرى. وفي كل مكان. إنها محاولة للعودة إلى الوراء، لـ «استعادة بلادنا»، كما عبر بريطاني أيد خروج بلاده من الاتحاد الأوروبي. ركب ترامب قطار التذمر في أوساط الطبقات المهمشة وسكان الأرياف الذين أفقرتهم السياسات الاقتصادية المتعاقبة من أيام رئاسة بيل كلينتون وقوانين التجارة الحرة وما ألحقته من أضرار بالصناعات الوطنية وإقفال لكثير منها وتفشي البطالة. لكن قطاره الجارف خلف جروحاً وانقسامات لن تقتصر آثارها على بلاده بل على العالم.
وفى الرئيس باراك أوباما بوعود أطلقها أيام حملته في 2008. أعطى دفعة للاقتصاد بعد الانهيار الكبير قبل سنوات. وداوى بعض ما ألحقته الحرب على أفغانستان والعراق من آثار في النفوس والبنى الاقتصادية. لكن هذه المنجزات لم تبدل في حياة كثير من الأميركيين. بل عمقت اللامساواة، فضلاً عن تنامي العنصرية والعنف. لذلك لم يحقق أوباما رؤيته التي بشّر بها مطلع ولايته الأولى. رأى إلى أميركا واحدة موحدة، لا بيضاء ولا سوداء، لا لاتينية ولا آسيوية. لكنها اليوم كل هذه. إنها أمام انقسام خطير وهي تتحدى الشعبوية والغوغاء والعنف والتطرف والعنصرية المتصاعدة، والتي عبرت عنها مواقف الرئيس العتيد أثناء السباق على البيت الأبيض. الشعبوية التي وصفها دومينيك دوفيلبان بأنها كثيراً ما تكون «نابعة من شعب مجروح». دوي جرس الإنذار يتردد صداه في كل مكان، وليس في شوارع المدن الأميركية حيث الاعتراض على الوافد إلى المكتب البيضاوي ظاهرة لم يألفها تاريخ البلاد. لكن الجرس كان يقرع من زمن في شوارع أوروبا مع تدفق اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين إلى القارة العجوز. ومع انتشار الإرهاب الآتي من كل حدب وصوب. من الشرق الأوسط الكبير ومن شمال أفريقيا.
من حق الأميركيين أن يخافوا، ويخرجوا إلى الشوارع اعتراضاً. كشفت الحملة الأخيرة في السباق على الرئاسة عمق الانقسام في مجتمعهم. انقسام افقي وعمودي. وكشفت حدة الصدام بين رؤيتين إلى العالم: رؤية تقليدية تواصل نهجها السلطات الحاكمة في الغرب عموماً والنخب المالية والثقافية، ورؤية تترسخ في أوساط طبقات أقل تعليماً تكره أهل الحكم ورجال المال والأعمال وما أتاحته الحدود المفتوحة على مصراعيها أمام انتقال الرساميل ورؤوس الأموال التي تعبر فوق رؤسهم ولا ينالهم منها ولو القسط القليل. كان الأميركيون يحلمون بتصحيح مسيرة الانكفاء الحاد والجذري في سياسة الرئيس أوباما. وهو ما وعدت به هيلاري كلينتون، ابنة المؤسسات. ولكن جاءهم حامل لواء عدم التدخل، أي مواصلة نهج الانعزال. وهذا ما قد يفقد الولايات المتحدة تدريجاً صورتها قائدة ورائدة للعالم. «أن تستعيد أميركا عظمتها»، كما أراد ترامب، شعار لا يحققه التقوقع داخل الحدود وتوجيه المدافع في كل الاتجاهات. يعرف الأميركيون أن عظمة بلادهم لا تقوم فقط على ما تقدمه إلى العالم في مختلف ميادين العلم. تلوذ عن موقعها الأول بأساطيل من كل نوع تجوب بحار العالم. وهو ما تحاول تقليده الصين اليوم. ولا تتحقق لاقتصادها المنعة والقوة إلا بانتشار قواعدها وقواتها حماية لهذه المصالح التجارية والصناعية والثقافية والأمنية… وكل ما تقدمه البلاد في شتى ميادين التقدم البشري.
ومن حق أوروبا أن تقلق. ليس لأن السيد ترامب هددها وأنذر حلف شمال الأطلسي في من أنذر وهم كثر من منظمة التجارة الدولية إلى بعض العرب وإيران واتفاقها النووي وحتى الصين التي تغرق العالم بمنتجاتها. من حقها أن تقلق. فبعد بريطانيا وتمردها على سلطات الاتحاد الأوروبي، تقدم حزب «البديل» اليميني في ألمانيا على حساب الأحزاب التقليدية في محطات انتخابية أخيراً. والوضع نفسه في النمسا والدول الاسكندينافية وهولندا التي عد زعيم المتطرفين فيها غيرت فيلدرز فوز ترامب «انتصاراً تاريخياً لنا جميعاً». ويراقب الفرنسيون بحذر تقدم «الجبهة الوطنية». الخطر أن يرى أهل اليمين المتطرف في الغرب فوز ترامب سنداً وعوناً لهم في سياق المواجهة مع الساسة التقليديين والمؤسسات الحاكمة. كانت أوروبا تجاهد لتطويق المتطرفين في مدنها وشوارعها فجاءهم الغيث والمدد من وراء المحيط. رحبوا بـ «عصر جديد». ونبه الرئيس فرنسوا هولاند من أن نتيجة السباق في أميركا ستخلف آثاراً كبيرة تعزز صفوف اليمين المحافظ في القارة، والشعبويين الذين عبروا عن شوقهم إلى العودة ببلدانهم إلى حدودها المعروفة. وتحدث الرئيس الفرنسي عن مرحلة من عدم اليقين! وهذه ألمانيا التي انتقدها الرئيس الأميركي العتيد بالاسم، يحذر وزير خارجيتها فرانك فالتر شتانماير من «أوقات صعبة». ويذهب زميله نوربرت روتغن المسؤول في حزب أنغيلا مركل أبعد منه في وصف فوز ترامب. اعتبر أنه «شرخ خطير ذو أبعاد تاريخية»، مذكراً بتصريحاته أثناء السباق: «كان صوت التعصب والكراهية وحتى العنف». زعماء أوروبيون آخرون يعترضون على السلطات الواسعة لبروكسيل هللوا ورحبوا.
من حق أوروبا أن تخاف من يمينييها. وأن تخاف أكثر من نزعة ترامب الانعزالية، وتالياً من غرق العلاقة بينها وبين الولايات المتحدة في مياه الأطلسي، في وقت يسعى حلف «الناتو» إلى تعزيز قدراته لمواجهة الشهية المفتوحة لروسيا سواء في أوكرانيا وأوروبا الشرقية أو الشرق الأوسط. خصوصاً أن تركيا التي كانت ركيزة أساسية في الحلف تقترب أكثر وأكثر من موسكو على حساب علاقاتها مع أوروبا والولايات المتحدة. فضلاً عن ترحيب الروس بفوز «مرشحهم» في الانتخابات الأميركية واستعدادهم للتدخل في الانتخابات الألمانية، كما حذرت المستشارة مركل. ومن حق الشرق البعيد أن يقلق. فالتركيز الاستراتيجي للرئيس أوباما على منطقة آسيا المحيط الهادي، القوة المحركة للاقتصاد العالمي، لم يلجم سياسة الصين في التوسع في بحرها وبحور جيرانها، حلفاء أميركا. ولا يبدو أن بمقدور واشنطن أن تجاريها في فضائها الحيوي وإن جهدت في بناء اصطفافات من الدول المعترضة على صعود بكين. في حين نجح الرئيس فلاديمير بوتين في بعث الحرب الباردة من دون أن تقوى أميركا أوباما وحلفاؤها على ردعه من ضم جزيرة القرم ووقف زحفه إلى المتوسط وتهديده دول البلطيق وغيرها التي تنتظر وفاء شركائها في «الناتو» بإرسال كتائب يمكن أن تردع القيصر عن أي مغامرة جديدة وكف تهديده الاتحاد الأوروبي بتقويض أسسه.
وتكفي العالم العربي رياح «الربيع» حروباً لم تفتت دوله ومجتمعاتها ومكوناتها فحسب، بل هددت تداعياتها دول العالم والمجتمع الدولي وقوانينه ودساتيره. وكان للإرهاب المتنقل وما خلفته موجات اللاجئين الأثر الكبير في تعزيز ميل الغربيين نحو التشدد والتعصب. وهذا ما ساهم في صعود اليمين المتطرف والشعبوية الساعية وراء مواجهة «الآخرين» الآتين من خارج حدود الدولة الوطنية. وما دفع بحكومات إلى التراجع عن نظم وقوانين وتقاليد وقيم لتحل محلها إجراءات تقيد الحريات وتتيح التدخل في الخصوصيات. ولا حاجة إلى التذكير بما حفلت به مواقف ترامب حيال المسلمين وعدد من الدول العربية. وما تودد به إلى الناخبين اليهود وإسرائيل. وهو ما يستدعي جهوداً عربية جبارة لاستعادة ما خلفته سياسة أوباما وما قد يقدم عليه خليفته. وقد لا ينجح الرهان على صدام آت مع إيران!
أما الآن وقد وصل إلى قيادة أكبر قوة اقتصادية وعسكرية وأكبر قوة علمية وصناعية وتقنية، فلا ينفع العالم، والغرب خصوصاً، أن يطلق النعوت والصفات على الوافد الجديد. وقد لا ينفع الرهان أو الاطمئنان إلى مقولة أن الفائز بالرئاسة لن يكون شبيهاً بالمرشح. وأن المنظومة السياسية وتكتل المصالح والشركات الكبرى كفيلة بتصحيح مواقف الرئيس التي أطلقها في الحملة الانتخابية. المأزق لا يتجلى في نمو الشعبوية وحدها. فهي تعبير رافض للقائم والسائد. وعلى النخب والمؤسسات الحاكمة والأحزاب التقليدية أن تعترف بمسؤوليتها. فالرجل لم يأت من فراغ أو عدم. عليها أن تبدل «ثيابها» لتلاقيه في منتصف الطريق. أن تعيد النظر ببعض من مؤسساتها وسياساتها ونظمها المختلفة. على هذه القوى التي أدارت وتدير شؤون العالم أن تتقدم نحو التغيير لتبديد مخاوف المهمشين، وملاقاة المعادين للعولمة والتجارة الحرة والمعترضين على مصادرة تمثيلهم لحساب اتحاد هنا يهتز، ومصالح وشركات وتجارة هناك لا تقيم اعتباراً لكل مكونات المجتمع. وأن تتقدم نحو قيادة مسؤولة لحل أزمات العالم. صحيح أن الأزمة في الرئيس الجديد، لكنها أيضاً في أوساط النخب والأحزاب الحاكمة. فالزعيم الجديد لأميركا والعالم لم يأت من صفوف سياسييها ولا حتى من صفوف حزبيها. هزم الجميع وحده. هزم الإعلام وأهل الثقافة والأكاديميا والفن وهزم رجال الأعمال. لم يصدر عن الجمهوريين الذين تبرأوا منه واعتبروا أن وصوله سيخلق مشكلة لحزبهم. تخلوا عنه الواحد تلو الآخر. أما الديموقراطيون فكانوا حاملي راية تشويه سمعته يعينهم جيش من كبريات وسائل الإعلام والفضائيات. لكنه تجاوز كل الحواجز. استنهض البيض وهم الكتلة الأكبر من الأميركيين. إنه ثمرة ما زرعوا في العقود الأخيرة، من أيام بيل كلينتون وربما من أيام رونالد ريغان مروراً بجورج بوش الابن… وهم يحصدون ما زرعوا! تغيرت أميركا وتتغير وعلى العالم أن يعتاش مع هذا التغيير.