جميل من حيث المبدأ، ان اقر مجلس الوزراء المحاور التنفيذية الاربعة لتطبيق ما جاء في الورقة النقاشية السادسة .وهذه المحاور هي: اولاً: الاصلاح الاداري الشامل .وثانيا :ترسيخ مبدأ المواطنة ودولة القانون وحب الوطن وتمكين الشباب .وثالثا تطوير الجهاز القضائي. ورابعاً التكاملية بين مجلس الامة والحكومة. والمتمعن فيما ورد في الورقة النقاشية يجد عناوين بالغة الاهمية مثل: سيادة القانون، والدولة المدنية ،وتكافؤ الفرص، والعدالة والنزاهة، والمواطنة ،وغيرها: وهذه مسائل اذا تحققت فإنها تعني تحولا جذريا في المجتمع ليس فقط في الجوانب الادارية والهيكلية و التشريعية، ولكن الاهم منها التحول المصاحب في الجوانب الثقافية والفكرية والتربوية و السلوكية الفردية و المجتمعية.
فسيادة القانون تتطلب من الدولة بداية فرض القانون و تطبيقه دون استثناء او محاباة اوتأجيل أو تهرب. ولكن ذلك لا يتحقق بكفاءة و إيجابية ،الا اذا اصبح المواطن مؤمنا بهذه المبدأ، و مقتنعا بمبرراته، وقابلا طوعيا وفكريا بنتائجه. وهذا بالإضافة إلى التشريع و الإنضباط يتطلب الكثير من العمل والجهد على الصعيد الثقافي والتربوي و الإعلامي. كذلك فإن تكافؤ الفرص والعدالة، تعني بداية ان يقتنع المواطن وينشأ و يتربى على مبدأ الاعتراف بحقوق الآخرين و أن يتم تأهيله لمواجهة متطلبات التنافس الشريف، وان لا يلجأ الى الواسطة والى تحريك المعارف والاقارب للوصول الى وظيفة معينة أو حتى الدخول على طبيب. كيف تنشأ مثل هذه القناعة في العقل المجتمعي؟ و كيف تترسخ في الممارسة على شتى المستويات ؟ ومن يضع قواعدها و تفصيلاتها؟ هنا يأتي دور الحكومة ومسؤوليتها. ذلك ان العدالة و تكافؤ الفرص كثيرا ما يتم انتهاكها بقرار اداري يصدر عن الجهة الرسمية بالتعيينات والامتيازات او التفضيلات. فهل يمكن ان يقتنع المواطن بالعدالة التي تبشر بها الأوراق النقاشية، وبمبدأ تكافؤ الفرص اذا لاحظ عكس ذلك في اداء المؤسسات الرسمية ؟هل يمكن أن يأخذ مبدأ سيادة القانون مأخذا جادا حين يرى أن القانون يطبق و يسود على المواطن العادي البسيط،و يستعصي تطبيقه على صاحب النفوذ أو المال أو القربى ؟.و كيف يؤمن الإنسان العادي بالمواطنة بأنها الميزان الذي تمر من خلاله المساواة إذا أحس بالتمييز الذي يستند إلى العرق أو المذهب أو الدين أو الجنس أو الجهة أو القوة أو النفوذ أو غير ذلك الكثير؟ و كيف يطمئن المواطن إلى مبدأ التكاملية و التشاركية بين الحكومة و مجلس الأمة ،إذا لم توقف السلطة التنفيذية سيطرتها المباشرة و غير المباشرة على أعضاء هذا المجلس؟ خاصة و نحن في عصر لم تعد فيه أسرار،فكل ما يحدث في الخفاء يظهر إلى العلن بعد ساعات.
كل هذا يستدعي ان تنظر الحكومة الى المحاور الأربعة نظرة التعمق و المسؤولية ،لأن نقطة البداية و منصة الإنطلاق هي في المؤسسة الرسمية و لديها. فإما أن تكسب ثقة المواطن حين يلمس الجدية و الإلتزام، فينعكس ذلك على نظرته مجددا إلى الأوراق النقاشية و على المستقبل ،و إما أن تخسر ثقة المواطن إذا تبين له عكس ذلك، فتذهب الجهود و الوقت هباء. و هذا يتطلب أن تكون استراتيجية الاصلاح الاداري الشامل عملية و واقعية و من “منظور جديد ألا و هو العمل في خدمة الدولة المدنية الحديثة الديموقراطية” و ليس إعادة الهيكلة و الهندسة الداخلية هنا و هناك. كما يتطلب ان تنظر بعين التفكير و التأهيل الى الاداة الرئيسية في تحقيق سيادة القانون والعدالة والمواطنة وتكافؤ الفرص. وهذه الاداة هي “الموظف العام” على مختلف المستويات .ما هي البرامج و الحوافز و الضوابط لكي يلتزم بالابتعاد عن الواسطة والمحسوبية والقرباوية مهما كانت المراكز الوظيفية؟ و هنا تصبح مسألة “القدوة و المثال هي مآل النجاح أو الفشل”. فكل موظف يقتدي و يتأثر برؤسائه و زملائه، و في المسائل الكبيرة و الصغيرة على حد سواء ،إبتداء من تعيينات كبار الموظفين واحالة العطاءات والترقيات، و انتهاء بنقل تلميذ من مدرسة إلى أخرى. ولكن المواطن العادي الذي يحتك يوميا بالموظف الصغير، سرعان ما سيكتشف من خلاله اية اجواء تعمل فيها الحكومة. ولا يتحقق الهدف من الإصلاح دون برامج تثقيف وتدريب وتأهيل للموظفين.و هذا ليس انتقاصا من أهلية و مكانة اي موظف أو مسؤول. كيف سيفهم الموظف سيادة القانون؟ وكيف سيميز ما بين التعنت وتعقيد حياة المواطنين من جهة ،و بين تطبيق القانون بعدالة. ان كل وزارة وكل مؤسسة حكومية لها ظروفها وطبيعة عملها الخاصة وبالتالي تتطلب تدريبات ومواد تثقيفية و مدونات سلوك مختلفة عن الدائرة الاخرى.
وهنا يبرز دور الثقافة والفكر والتربية و الإعلام. كيف ستنقل الحكومة هذه المفاهيم و الممارسات إلى المجتمع ؟ و كيف سينقل المعلم هذه المفاهيم الى الطلبة ؟ وكيف سيغرس في عقولهم ونفوسهم مبادئ المواطنة والتنوع وقبول الاخر؟ ليصبح جزء من سلوكياتهم اليومية ؟هكذا تفعل اليابان وفنلندا وسنغافورة وغيرهم الكثير. ما هي النشاطات المنهجية واللامنهجية التي ستقوم بها المدرسة والمعهد والجامعة لتكريس هذه المفاهيم والممارسات؟ ليس من خلال الوصف الكلامي بقدر ما هو قناعة عقلية عميقة وسلوكا يوميا مستقرا. وما هي دور الثقافة المجتمعية و من يقوم بذلك؟ ما هو دورالأحزاب و منظمات المجتمع المدني في هذا المجال ؟ ألا يستدعي كل ذلك “انشاء مدونة سلوك خاصة تجعل المبادئ الواردة في الورقة السادسة ملزمة للاحزاب ولمنظمات المجتمع المدني” وللصحافة والاعلام والمواقع الالكترونية؟ لقد فشلت كثير من المحاولات الاصلاحية في الماضي لثلاثة اسباب رئيسية الاول: فشل الحكومة في ان تكون النموذج والقدوة في التغيير و الادارة و الأداء. والثاني: عدم تأهيل وتثقيف الموظف العام بالدور الجديد المطلوب ، والثالث: استبعاد منظمات المجتمع المدني و عدم اقتناع المواطن بأداء المؤسسة الرسمية.
واخيراً فإن الاجواء مواتية للبدء من جديد ولكن بعلم وعقل وواقعية. فصناعة المستقبل تدخل فيها و بعمق كل المتغيرات الادارية والتشريعية والاقتصادية والفكرية والثقافية والتربوية.