علّمتني المهنة أن الصحف لا تعيش من الأحاديث الفاترة. ومن الكلام الهادئ والأرقام. وأنها كما القرّاء، تفضّل القصص المتشابكة والمتحوّلة. وأنا أصلاً أحب الحكايات المثيرة. وقصة العماد ميشال عون مثيرة وشائكة كقصة بلاده.
ينظر الجنرال إلى المنطقة. إلى اليمن والعراق وسورية ولبنان، ويرجع باستنتاجات مؤلمة. الدولة المدنية الجامعة ركام. حين تهبّ العاصفة لا تلتزم الطوائف غير دساتيرها. هذا زمن المذاهب لا زمن المؤسسات الوطنية. الأعلام الصغيرة تغلب العلم القديم. والميليشيات أقوى من الجيوش. ورياح الطلاق أشد من إغراءات الزواج.
والجنرال ابن التركيبة اللبنانية وأكاذيبها الجميلة. وهو أيضاً ابن رمالها المتحركة المفتوحة على كل المخاوف. ولأبناء الأقليات رادارات دقيقة وموتورة. والعيش مجرّد تجاذب بين التساكن الصعب والطلاق الممنوع.
وميشال عون ضابط لبناني من مؤسسة تربّت على الطاعة والتراتبية الصارمة، قبل أن تتسلّل إليها الرياح المسمومة. وهو ضابط عربي من عصر مضى تتسابق في داخله الرغبات الإنقاذية والشهوات الانقلابية.
أخطأ كثيرون في فهم ميشال عون. اختصروه بتصريحات نارية. أساؤوا تقدير قدرته على الخروج بمكاسب شعبية من حروب خاسرة. وأساؤوا تقدير قدرته على السباحة من ضفة إلى أخرى ثم العودة قليلاً إلى الضفة التي غادرها. أساؤوا تقدير قدرة زعامته على تحمُّل جرعات من السم على طريق القصر. رأيناه في معراب وسمعنا سمير جعجع يرشّحه لرئاسة الجمهورية. ترشيح باسم «الإقليم» عملياً. ورأيناه في بيت الوسط للفوز بترشيح سعد الحريري. أساء كثيرون تقدير قدرة الرجل على إحراج خصومه وحلفائه معاً.
ولا مبالغة في الاعتقاد بأنه مصاب بلسعة التاريخ. ماذا سيقول اللبنانيون عنه؟ وقبل ذلك ماذا سيقول المسيحيون، خصوصاً الموارنة؟ حين يستولي عليه الهدوء الشديد تشعر بأن أربعة أسماء تتعايش في داخله. فخرالدين وحكاية لبنان الكبير. وشارل ديغول المستعد إذا دعته فرنسا. وحافظ الأسد الذي دفعه إلى المنفى وهو مثله ابن أقلية. وبشير الجميل الذي هدّد بإبقاء القصر بلا رئيس إن لم يكن هو الرئيس. بصمات بشير واضحة طبعاً مع الالتفات إلى اختلاف التحالفات الداخلية والرياح الإقليمية. خاض عون حرباً بلا هوادة لمصادرة إرث بشير، وانتزاع حق تمثيل طائفته لتوظيف هذا الرصيد في تحالفات وتفاهمات وسِلال تفتح أمامه أبواب القصر. وقد حقّقت له الانتخابات ما عجزت عنه الدبابات.
طُوِيت في هذا الجزء المنكوب من العالم صفحة الدولة المدنية الجامعة. دولة المؤسسات. ترميم الأزياء القديمة متعذّر حالياً. لم يبقَ غير دولة المحاصصة والأقاليم والمساكنة والهدنات. يعرف ميشال عون أن الطائفة الشيعية بايعت قيادتها واختارت نهجها داخلياً وإقليمياً، وأن «إقليمها» عصيّ على الاختراق. وأن الطائفة السنّية تبحر في اتجاه آخر. وأن الزّعامة الحريرية تبقى، على رغم ما لحق بها، الأقوى في «الإقليم» السنّي المفتقر الى التواصل الجغرافي.
يراقب الجنرال حرائق المنطقة ويتساءل لماذا لا يحق للموارنة ما يحق للأكراد والشيعة والعلويين؟ ولماذا يحق للطوائف الأخرى أن تتمثّل بالأقوياء فيها ويُطلب من رئيس الجمهورية أن يكون معتدلاً وفاتراً، وأن يُطلق التصريحات كأنه محلل سياسي ضائع بين «الأقاليم»؟
لا رئيس إن لم يكن هو الرئيس. هذا ما فعله منذ أكثر من عامين. وهذا ما قاله أنصاره أمس على مقربة من القصر. واضح أن لا رئيس إن لم يكن هو الرئيس. وماذا سيفعل لو انتخبوه؟ هل سيكون شبيهاً بجلال طالباني أم يريد أن يكون طالباني وبارزاني معاً أي رئيس الجمهورية و «الإقليم الماروني» معاً؟ والأقاليم يمكن أن تكون جغرافية أو دستورية تحكمها النصوص والاتفاقات والسّلال. وثمة من يعتقد بأن التوازنات الداخلية والإقليمية لن تسمح لعون، إذا انتُخِب رئيساً للجمهورية، بدور فعلي أكبر من دور رئيسٍ لإقليم الموارنة، وهو دور مُتعِب لحلفائه القدامى وأصدقائه الجدد.