صاحب النقاش في الآونة الاخيرة، وهو ظاهرة صحية ومطلوبة، لغط كثير حول مفهوم الدولة المدنية، بعضه نابع من عدم الفهم الصحيح لأسس هذه الدولة، والبعض الآخر محاولة مقصودة لتصوير من ينادي بالدولة المدنية وكأنه يعادي الدين أو يحاول طمس هوية الأمة. من المفيد التمعن في بعض القضايا التي يتمحور حولها هذا النقاش حتى نخرج من دائرة الاٍرهاب الفكري ونمحص في الحقائق.
الدولة المدنية هي تلك التي تحكمها دساتير وقوانين تضمن الحريات الفردية كما حريات كافة مكونات المجتمع، وهي الدولة التي يشكل دستورها المظلة الأوسع للناس، فتمارس تحت كنفها حرية المعتقد والدين والفكر، لا تفرض فيها فئة على أخرى ماذا تفكر أو تلبس او تعتقد، ولا يتغول فيها أحد على الأخر. والدولة المدنية دولة مؤسسات، يتم فيها تطوير السلطات التشريعية والقضائية حتى نصل إلى نظام من الفصل والتوازن لا يسمح لسلطة بالتغول على أخرى. والدولة المدنية دولة قانون، يسري فيها القانون على الجميع بغض النظر عن مكانتهم أو منصبهم أو نفوذهم أو أصولهم. فلننظر إلى بعض المفاهيم الخاطئة التي يروج لها البعض لتكفير من ينادي بالدولة المدنية.
اولا: نقيض الدولة المدنية ليست الدولة الدينية، بل الدولة السلطوية، التي تستأثر بالسلطة والفكر وتتغول على السلطات الأخرى وتطبق القانون بشكل انتقائي. الدولة المدنية ليست عدوة الدين، بل عدوة السلطوية. لم ينادِ المسلمون بدولة دينية منذ نزول الدعوة، والدولة الدينية الوحيدة في الإسلام جاءت مع بدعة ولاية الفقيه في إيران التي لا تعترف بها الأغلبية الساحقة من المسلمين، شيعة وسنة. لا يمكن لدولة تحترم حرية المعتقد والفكر والدين أن تكون ضدّ الدين لأن ذلك ينافي أحد أهم أسس الدولة المدنية. حرية الدين مكفولة في الدولة المدنية التي تقف نفس المسافة من كافة الناس. أما إن كان الغرض من البعض فرض تفسيرهم للدين على كافة الناس بالإكراه، فالدولة المدنية لا تسمح بذلك وإلا تتحول لدولة سلطوية.
ثانيا: لا نستطيع الحديث عن الدولة المدنية دون إقرانها بالدولة الديمقراطية أيضا، فالصفتان متلازمتان. الدولة المدنية دون الديمقراطية تعني الاستئثار بالسلطة من قبل فصيل واحد، والدولة الديمقراطية دون المدنية تعني الاستئثار بالسلطة من قبل فصيل آخر. الدولة المدنية الديمقراطية تعني سيادة القانون واحترام الحريات وتداول السلطة والاحتفاء بالتعددية الاثنية والدينية والفكرية والجندرية للمجتمع، وهي التي تستحق أن نعمل من أجلها.
ثالثا: لا تعارض على الإطلاق بين الدولة المدنية والإسلام، وذلك خلافا لما يريد البعض تصويره لتحقيق مآربهم على حساب باقي الناس. لو كان هناك تعارض لما استطاع التونسيون والتونسيات من الاتفاق على عقد اجتماعي جديد من خلال دستور يضمن حقوق كافة مكونات المجتمع، الاسلامية والعلمانية والليبرالية والمحافظة، إدراكا منهم أن لا مجال لإلغاء أحد، وأن التعددية تحت مظلة الدستور هي الضمان للانطلاق نحو مستقبل أفضل. لو كان هناك تعارض بين الدولة المدنية والإسلام، لما وقفت الأحزاب العلمانية قبل الدينية ضد الانقلاب العسكري الأخير في تركيا، لإدراكها أن من يقصي الآخر يسمح للآخر بإقصائه. ولو كان هناك تعارض بين الدولة المدنية والاسلام، لما تعايش العلمانيون والإسلاميون في وفاق في دول كالمغرب وماليزيا واندونيسيا وغيرها.
هذه هي مقومات الدولة المدنية. على من يهاجم الدولة المدنية الإفصاح عن شكل الدولة التي يريد، دون ممارسة الاٍرهاب الفكري الذي لم يعد رادعا كافيا لتكميم الأفواه والعقول، إلا إذا كان هذا البعض يعتبر الشيخ راشد الغنوشي وطيب اردوغان وعبد الإله بن كيران كفارا.