المُضحك المبكي في مؤتمر الرابطة المارونية اللبنانية الذي نُظم للمطالبة بإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، أن ثمة من لا يزال يعتقد بأن الفولكلور اللبناني الذي انقضى زمنه، وهو أصلاً وإبان ذروة مجده لم يكن أكثر من أراجيز كاذبة حول قرية وجرّة ولبنان خرافي ومُتخيل، يصلح لتفسير ما يجري معنا وحولنا. فقد اختتم المؤتمر بـ «نشيد العودة» في محاكاة لطالما خبرناها لظاهرة اختتام التراجيديا بالزجل.
طالب المؤتمرون بإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم وبإقفال الحدود اللبنانية السورية في وجههم. والغريب أن أحداً من ضيوف المؤتمر الكثر، من خارج فقاعة أوهام الفولكلور إياه، لم يواجه المؤتمرين بسؤال بديهي: هل يعني إقفال الحدود إقفالها أيضاً في وجه آلاف المقاتلين المنتمين إلى «حزب الله» والمتوجهين إلى سورية؟ السؤال شديد الارتباط بالهدف «النبيل» المتمثل في إقفالها بوجه اللاجئين. ذاك أن أياً من القوى اللبنانية المشاركة في تنظيم المؤتمر والمندفعة نحو أهدافه لم تنبس بكلمة اعتراض واحدة على إعلان «حزب الله» أنه يشارك رسمياً وعلناً في القتال في سورية.
مسموح للبنان الرسمي («حزب الله» مشارك في الحكومة ومجلس النواب) أن يُقاتل في سورية، وممنوع على اللاجئين السوريين الهاربين من حرب بلادهم أن يبحثوا عن ملجأ آمن بالقرب من بلادهم! هذه هي المعادلة التي خرج بها مؤتمرو الرابطة.
نعم، لبنان الرسمي هو مَنْ يُقاتل في سورية، ذاك أن سلاح الحزب مُشرع في البيان الوزاري، والسلاح عينه ما يُستعمل في سورية. والحزب، بالإضافة إلى حضوره الرسمي في كل مستويات التمثيل البرلماني والوزاري، يتمتع بشبكة تحالفات واسعة شارك معظمها في مؤتمر الرابطة، وهذه الشبكة تؤمّن له مزيداً من «شرعية» القتال هناك، لا بل تتبنى هذا القتال كدرء للمخاطر عنها. إذاً كيف تستقيم مطالبتكم السوريين بالمغادرة، وأنتم في الوقت نفسه تشاركون في القتال في بلادهم أيها اللبنانيون المنبعثون من تراجيديا التفوق المُهدَّدة باللاجئين؟
ولندفع السؤال خطوة أبعد. في لبنان مليون ونصف مليون لاجئ سوري علينا إعادتهم إلى بلادهم، أو إلى مناطق آمنة فيها. ومن المنطقي أن نعني بالمناطق الآمنة بعض البؤر الجغرافية المجاورة للحدود، أي ريف دمشق وصولاً إلى الزبداني والقصير وغيرها من المناطق المجاورة. وإعادة أكثر من مليون ونصف مليون إلى تلك البؤر تعني إفشال مساعي النظام السوري وحلفائه الجلية لإحداث تغيير ديموغرافي بدأت معالمه تتضح في داريا ومعظم المناطق التي يقاتل فيها «حزب الله».
بهذا المعنى تبدو هذه المطالبة (إعادة اللاجئين) غير منسجمة مع مساعي حلفاء أصحابها، إلا إذا كان المقصود من إعادتهم إلى بلادهم إرسالهم إلى شمال سورية، وربما لاحت هذه الخرافة في مخيلات المؤتمرين، وإذا صح ذلك نكون عندها أمام حقيقة تحول الغباء إلى خرف.
الحقائق الديموغرافية ثقيلة، ولا يمكن امتصاص تبعاتها بكل هذا الانفصال عن الواقع. لبنان جزء من الحرب في سورية، وهذه حقيقة لا تقبل الشك. من هنا يجب البدء بالبحث عما إذا كان باستطاعتنا مواجهة استحقاق اللاجئين، والأرجح أن ليس بمستطاعنا. فقرار إحداث تغيير ديموغرافي في سورية أكبر من أن نستطيع التصدي له. ومباشرة النظام و «حزب الله» تنفيذ قرارهما تعني أن مئات آلاف المستهدفين به سيتدفقون على لبنان. وهذا ما حصل فعلاً، فأكثر من 80 في المئة من اللاجئين في لبنان من ريفي دمشق وحمص، أي من المناطق التي يُقاتل فيها لبنان في سورية. هذه الحقيقة لم يُشَر إليها في مؤتمر الرابطة، ما يجعل المؤتمر محطة بلا معنى في سياق البحث في جوهر المشكلة.
لكن الأخطر من حال الانفصال عن الواقع، أن المؤتمر نجح في تزخيم وتكريس لغة ثأرية وانتقامية في مواجهة اللاجئين، سريعاً ما وجدت أصداء لها في الشارع. فقد واكبت المؤتمر توترات في أكثر من منطقة لبنانية بين نازحين سوريين وسكان، والجديد في هذه التوترات أنها وجدت أجواء عامة مستقبلة لها بصفتها استئنافاً لزمن المواجهة بين لبنان والنازحين. وسائل الإعلام المحلية غطت هذه الوقائع بصفتها حرب تحرير تخوضها «المقاومة اللبنانية» (هل تذكرون المقاومة اللبنانية؟) في مواجهة الاحتلال السوري (هل تذكرون الاحتلال السوري؟). وهنا توحدت المقاومتان وأقام الإعلام الممانعاتي والعوني أيضاً جسراً فينيقياً بين المقاومة التي تقاتل في سورية وهي في طريقها إلى القدس، وتلك التي باشرها جبران باسيل في لبنان.
لكن مؤشرات المؤتمر لم تقتصر على هذا التعامي عن المهمة اللبنانية في سورية. فقد واكب هذا التعامي تعامٍ موازٍ أفدح، يتمثل في أن مشاركة دولية فيه، بدءاً من الاتحاد الأوروبي وصولاً إلى سفراء الدول الغربية، لم تطرح على نفسها مهمة إيقاظ العقل لدى لبنانيي الرابطة المارونية، وهؤلاء جميعاً موجودون في قلب قضية اللاجئين السوريين في لبنان. وهم وزعوا خبثهم بين تقية سيكون المسيحيون اللبنانيون ضحيتها قبل اللاجئين، وبين عبارات لا تُمثل سياسات بلادهم الحقيقية حيال هذه القضية. فعبارات من نوع «مساعدة لبنان لاستيعاب اللاجئين» و «تفهم المخاوف اللبنانية من هذه القضية»، تخفي تحتها رغبة في عدم مفاتحة الأغبياء بغبائهم، وفي عدم مواجهة المرتكبين بارتكاباتهم. فهؤلاء يعلمون أن ثمة مشروعاً لتغيير ديموغرافي في سورية لن ينجو منه لبنان، ويعلمون أيضاً أن لبنان يُقاتل في سورية. وهذه الجهات الدولية تشتري غباء الأغبياء وارتكابات المرتكبين في ملف اللاجئين عبر التغاضي عن المهمة اللبنانية في سورية، وعبر رشوة الحكومة من خلال الإفساح للفساد بأن يغزو صناديق المانحين، فلا يُجاب جبران باسيل عن تساؤلاته عن أخطار النزوح بحقيقة أن وزارة التربية اللبنانية، التي يرأسها عوني وممانع في آن، تتقاضى عن كل تلميذ سوري في لبنان 800 دولار أميركي يصرف منها أقل من 300 دولار، والباقي يمثل رشوة يتم تصريفها في قنوات الوزارة العونية. وهذه عينة عما تم التغاضي عنه في ملف اللاجئين السوريين في لبنان، وعما لم يُشر إليه في مؤتمر الرابطة المارونية.