نفت الخارجية الأميركية الأسبوع الماضي، تقرير معهد دولي محترم، قال بوجود اتفاق سري يسمح لإيران باستثناءات تمكّنها من الاستمرار بهدوء في مشروعها النووي، من سيصدّقهم؟ لقد انتهكت إيران اتفاقها مع القوى الكبرى الذي وقعته العام الماضي لتجميد مشروعها النووي و«حتى يكون العالم أكثر أمناً»، كما صرّح حينها الرئيس الأميركي باراك أوباما، ولم تتعرض لأي عقوبات، قامت بتجربة صواريخ بعيدة المدى، تنتهك حقوق الإنسان في بلادها وخارجها مرة كل 5 دقائق، إعدام الناشطين السياسيين فيها أسهل من إجراء عملية إجهاض في تكساس، ترسل ميليشياتها و»حرسها الثوري» (المصنف إرهابياً) إلى خارج حدودها بعشرات الآلاف، على رغم هذا كله، لا يزال وزراء خارجية دول أوروبية يشدون الرحال إليها، ورجال أعمالهم يعيدون اكتشاف طهران وفنادقها العتيقة، استعادت صناعتها النفطية طاقتها، وتوشك أن تفتح فروعاً لثلاثة من بنوكها في ألمانيا، و400 مليون دولار تشحن لها نقداً من واشنطن في صناديق، في معرض «رفع العقوبات» ولإطلاق سراح 4 رهائن تحتجزهم، وهذه الأخيرة نفتها واشنطن ثم عادت وأقرّت بها، لذلك لا ينبغي أن نصدقها وهي تنفي غضّها الطرف عن إيران وهي تتجاوز كمية اليورانيوم المخصب التي نصّ عليها الاتفاق، كما نقل معهد العلوم والأمن الدولي (المفارقة أن اختصار اسمه بالإنكليزية ISIS) عن مسؤولين شاركوا في مفاوضات «الخمسة + 1»، ما يعطي التقرير أهمية وصدقية.
فلماذا هذه المحاباة وغض الطرف الأميركي عن إيران، وحرص الإدارة على إعادة طهران إلى حضن المجتمع الدولي على رغم أنها لم تتغيّر ولا تنوي أن تفعل ذلك؟
أعتقد أن هناك أربعة أسباب، وكلها تصبّ في خانة تخص السعودية وعالمها السنّي. (للأسف حان الوقت للاستسلام لهذا الخطاب)، إذ مراجعة السياسات مكّنت إيران من تحقيق هذه النجاحات مع الاحتفاظ بمشروعها الأصولي العدواني، بينما تنتقد الرياض وعالمها منذ 11 أيلول (سبتمبر) على الصغيرة والكبيرة، حتى تجرأ عليها حتى الصغار في غروزني عندما عقدوا مؤتمراً يُخرج المكون الذي قام عليه المشروع السعودي عن سياق الغالبية السنّية التي تتعرض لهجمة حقيقية.
الأسباب الأربعة هي أن لإيران مشروعاً، والثاني أن لديها أوراقاً تفاوضية مهمة تستطيع أن تبادل بينها، والثالث أنها وعالمها يتحدثان بصوت واحد، وآخرها أن لدى أميركا مشكلة مع «العالم السنّي».
* المشروع
يعجب العالم بصاحب المشروع الواضح، الدؤوب عليه، المقاتل من أجله، حتى لو كان خصماً، وهذا هو الموقف الغربي نحو إيران، ينتقدونها، لكنهم يعترفون بمشروعها، وضمّنوه رؤيتهم للمنطقة، فقضية واضحة جلية مثل ثورة الشعب السوري من أجل حريته، بات يراها الغرب كمجرد «صراع سعودي – إيراني» يجب حلّه بالاستماع إلى الطرفين، وحسبان مصالحهما، خصوصاً الطرف الإيراني الذي أرسل عشرات الآلاف من رجاله ليقاتلوا هناك. اختفت قضية الشعب السوري ومظلمته وتطلعه إلى الحرية، على رغم أنه الغالبية، وعلى رغم أن حاكمه المتشبث بالحكم ديكتاتور مصطدم بالقيم الغربية والأميركية، وحلّت محلها عبارات «التوازن الإقليمي» و«ضرورة أن نشجع السعوديين والإيرانيين على حوار مباشر يحقق مصالح كل الأطراف، وحينها يمكن أن نتوصل إلى حل سلمي في سورية»، ثم مقالات طويلة، عن التدافع السنّي – الشيعي، وصراع الألف عام. عبارات كهذه لا تخرج عن كونها انحيازاً الى إيران، التي يجب أن تعامل كمجرم حرب في سورية لا كطرف يسمع له.
لقد اعترف الأميركي بالدور الإيراني في العراق مثلاً، على رغم الحساسية التاريخية بينهما، وعلمه بقبح «الحشد الشعبي»، وخروجه على قواعد الاشتباك حتى الأميركية منها، ومعرفتهم بتصرفاته الطائفية، وانتهاكه أعراف الحرب كلما دخل مدينة أو قرية سنّية، لكن عندما نظر الأميركي هناك، لم يجد غير المشروع الإيراني فتعامل معه، ما يثبت القاعدة القديمة في الغرب الأميركي، أن من بيده المسدس، فحجته أقوى. نحتاج أن نذكّر الأميركيين بأن شرقنا الأوسط ليس غرب أميركا، لكن نحتاج مشروعاً يقارع المشروع الإيراني كي يستمعوا إلينا في شكل أفضل.
* أوراق تفاوضية عدة
تعلّم الإيراني هذا التكتيك من الإسرائيلي، الذي يحتل ثم يفاوض، يبني المستعمرة ثم يفاوض، يفاوض ثم يوقع اتفاقاً ثم يفاوض على تنفيذ الاتفاق، الإيراني يفعل الشيء نفسه، لديه ورقتان، المشروع النووي، والمشروع التوسعي، يجمد الأول كي يتفرغ للثاني، ويوظف الثاني لخدمة الأول. نموذج لذلك معلومات كشفها الصحافي الأميركي جيه سولمون في «وول ستريت جورنال»، يقول إنه سمعها مباشرة من مسؤولين أميركيين وإيرانيين شاركوا في مفاوضات بعُمان في الوقت نفسه الذي وقعت جريمة استخدام السلاح الكيماوي من جانب النظام السوري ضد شعبه في آب (أغسطس) 2013، تبادلوا رسائل أنه لا يمكن التقدم في المفاوضات، والتي دخلت مرحلة متقدمة، في حال إقدام أوباما على قصف حليف لإيران! كانت مفاوضات الاتفاق النووي ورقة قوية استخدمها الإيرانيون في اللحظة المناسبة لإنقاذ بشار الأسد، فتنازل لهم أوباما من دون اعتبار لمئات آلاف آخرين سيقتلون بعد ذلك، أو للقيم الأميركية التي يزعم التزامه بها.
بالتالي، يستطيعون توظيف «ورقة سورية» ومثلها في العراق واليمن ولبنان، وتنازلاتهم هناك أو ما يبدو كأنها تنازلات، للحصول على استثناءات في مشروعهم النووي، والذي يتبين من تقرير «معهد العلوم» المشار إليه آنفاً، أنه لا يزال ماضياً بهدوء، كل ما في الأمر أطفأوا بعض الأضواء، وأغلقوا بعض المنشآت، بينما يعمل غيرها، ثم عندما يستأنفون العمل بكل طاقتهم بعد تسعة أعوام وهي ليست بعيدة، تكون جاهزيتهم كاملة لحيازة القنبلة، لكن تكون بلادهم قد تحررت من صفة الدول المنبوذة، وأضحت شريكاً اقتصادياً للولايات المتحدة وأوروبا، يجب مراعاته.
ما هي الأوراق التي في يدنا لنفعل مثلهم؟
* صوت واحد
عندما يلتقي وزير الخارجية الأميركي جون كيري، بنظيره الإيراني محمد ظريف في جنيف، ويناقشه حول سورية والعراق، ثم يمضي إلى بغداد فسيستمع إلى الإجابة نفسها، يقارنها بتقرير سري وصله من الاستخبارات الأميركية في بيروت أو دمشق أو صنعاء، سيجد تشابهاً إن لم يكن تطابقاً في الآراء، سيعجبه هذا الوضوح حتى لو لم يعجبه المحتوى.
في المقابل، يبدأ بجولة تقوده من الرياض إلى أبو ظبي فالدوحة، فأنقرة، فعمان حيثما يفترض أنه المعسكر المواجه للمعسكر الإيراني، ويسألهم عن سورية والعراق، بالتأكيد لن يسمع آراء متطابقة، بل للأسف متعارضة أحياناً، وتشكيك طرف في آخر. خلافات كهذه، سبب وجيه من أسباب المحاباة الواضحة من واشنطن نحو طهران أخيراً.
الحل بتوحيد المواقف، وأن تقود إحدى العواصم السالفة الذكر أو بعضها هذا الاتجاه، على الأقل حيال قضايا المواجهة مع إيران، لذلك أشاع إعلان «التحالف الإسلامي» في الرياض العام الماضي جواً من التفاؤل في معظم البلاد المعنية بالمواجهة، لكن متابعة إعلام تلك الدول، حيث يشيع التشكيك والاتهام لبعضها البعض، ذهبت بهذا التفاؤل.
* حساسية الأميركي من الإسلام السنّي
السبب الرابع والأخير، لن يكون محل اتفاق، لكني أرى أن هناك حساسية أميركية من الإسلام السنّي لم يتعافَ منها بعد 11 أيلول، تجدها في تصريحات المرشحين للرئاسة، وفي الإعلام وفي الكونغرس. مشكلة الإسلام السنّي أن ثمة طائفة منه غاضبة، معتدية حتى على مجتمعها الإسلامي، وكذلك على الغرب، ويصرّ السياسي هناك على الخلط بين الغالبية السنّية وتلك الأقلية الغاضبة المعتدية، إما جهلاً وإما عمداً. مثل على ذلك، قضية تنظرها محكمة ألمانية في كولون، ضد عدد من السوريين المتهمين بدعم حركة «أحرار الشام»، وهي فصيل أساسي في المقاومة الجارية في سورية ضد بشار الأسد، واستدعت باحثين للشهادة أن الحركة «إرهابية»، بالفعل فعل ذلك بعضهم! هذه القصة تشرح هذا الموقف السلبي، الذي يجعل الأميركي يحاسب بقسوة الفصائل الإسلامية في سورية، بينما هو غير معني بـ «كتائب العباس» و «النجباء» والحوثيين والمرتزقة الأفغان و «فصيل بدر» ومن قبلهم «حزب الله»، ممارستهم إرهابية، خارجة على القانون والعرف، لكنه مقتنع بأنهم لا يشكلون تهديداً له، حتى لو صرخوا «الموت لأميركا» كما يفعل الحوثيون، ثم يطالب كيري بإدراجهم في حكومة وطنية كحل في اليمن!
ما الحل لهذا؟ أعتقد أن الزمن كفيل به، لكن الأهم أن نحلّ الثلاثة الأولى، فيكون لنا مشروع، وصوت واحد ومكاسب نفاوض عليها، وحينها يحلّ الرابع، أو حتى من يهمه حينها كيف يشعر الأميركي نحونا، إذ لا يبكي على الحب غير النساء.