ذكّرتنا وفاة إسلام كريموف بحياته. لكنّ سيرة الطاغية الأوزبكيّ، الذي قضى قبل أيّام، تذكّر أيضاً بطُغاتنا وبطرق معهودة في تسيير سياساتنا، وأوجه من سِيَر مجتمعاتنا.
فكريموف كان الأمين العامّ للحزب الشيوعيّ الأوزبكيّ حين باشر الاتّحاد السوفياتيّ تفسّخه وانحلاله، لكنّه لم يكن من أوائل الذين غادروا المركب الغارق: فقد تعاطف مع الانقلاب العسكريّ لإطاحة ميخائيل غورباتشوف صيف 1991، وربّما زاد في تعاطفه خوفُه من مسارعة السكّان إلى إعلان الوفاة المبكرة للرابطة السوفياتيّة. فقد ظهر فجأة اهتمام واسع بتيمورلنك بوصفه بطلاً قوميّاً أوزبكيّاً، وفي طشقند وسمرقند راحت تماثيله الجديدة تطرد تماثيل لينين، كما عُمّد الفاتح قتيبة بن مسلم أوزبكيّاً، لا عربيّاً.
وفقط بعد انهيار المحاولة الانقلابيّة في موسكو، أعلن كريموف استقلال أوزبكستان عن البناء اللينينيّ المترهّل. وهو سريعاً ما استدرك محاولاً اللّحاق بالعواطف المحلّيّة المناهضة للروس، فأعلنت بلاده، إلى جانب قازخستان وقيرغيزيا وتركمانستان، تحويل لغاتها الإثنيّة لغات قوميّة، حاذيةً حذو كازاخستان التي كانت الأبكر في القومنة الثقافيّة، لأنّها كانت أكثر جمهوريّات آسيا الوسطى تعرّضاً للترويس السكّانيّ والثقافيّ.
بيد أنّ ما فعله كريموف اضطراراً آنذاك، بوصفه أبغض الحلال على مناضل شيوعيّ، ما لبث أن صار نهجاً يختاره بكامل حرّيّته، كما لو أنّه لم يكن مرّةً شيوعيّاً. فهو جعل بلده، منذ الحرب الأميركيّة على أفغانستان في 2001، حليفاً للولايات المتّحدة، يقدّم لها القواعد ويوصل إمداداتها العسكريّة والتقنيّة إلى كابول. وبهذا التحالف مع من كانوا، قبل سنوات قليلة مضت، «أشراراً إمبرياليّين»، حمى بلده ممّا اعتبره ميلاً روسيّاً متأصّلاً إلى التوسّع، كما اشترى صمت الغرب عن انتهاكاته حقوق الإنسان في بلده.
والانتهاكات هذه كانت الثمن الفظيع لاستقرار شهد له الجميع، وأُعجب به البعض. فهو قمع العصبيّات القبليّة الكثيرة والمتناحرة، كما اضطهد النخب المدينيّة المتأثّرة بمثالات غربيّة وليبراليّة. إلاّ أنّ الإسلاميّين، الذين لم يبرأوا من رضّات الكبت الروسيّ، كانوا أشدّ المستهدَفين بطغيانه وباذلي أفدح أكلافه، خصوصاً وقد حملوا السلاح ونفّذوا عمليّات إرهابيّة ضدّ نظامه الإرهابيّ. والقمع هناك كان من عيار فلكيّ، يرمز إليه سجن جسليك الشهير وتُتداول في وصفه آلاف الحوادث التي يتصدّرها ما ذاع عن إحراق منشقّ حيّ، أو قتل متظاهرين مدنيّين بالمئات في 2005.
شيء آخر وُصف به حكم إسلام كريموف الذي دام 27 عاماً ثقيلة، هو أنّ التحالفات والمنافسات والمكائد المتبادلة بين زوجته وابنتيها غولنار ولولا، وموقعه هو في هذه الخريطة البيتيّة، وموقعهنّ حياله، غدت أحد المداخل الأهمّ لفهم الحياة «السياسيّة» واتّجاهاتها، كما لفهم تداول الثروة وتوزيعها، في أوزبكستان.
فحين رحل كريموف عن دنيانا، أبقي أمر موته سرّاً لأيّام، تماماً كما حصل بُعيد رحيل جوزيف ستالين في 1953، الذي هيمنت صورته على طفولة الديكتاتور الأوزبكيّ ومراهقته. ذاك أنّ «البلد المستقرّ جدّاً» بسبب كريموف، الذي ساوى نفسه بالبلد، مهدّد بوجوده ذاته بعد موته.
والحال أنّ سيرة الطاغية الأوزبكيّ صالحة، في جوانب كثيرة منها، لأن تكون سيرة لحافظ الأسد أو صدّام حسين أو معمّر القذّافي. ففي الحالات المذكورة جميعاً، ليست الأيديولوجيا والتحالفات مهمّة إلاّ في تعبيدها الجسر إلى السلطة، وفي توفيرها اللحمة التي تتطلّبها تلك السلطة. أمّا السجون والقتل والاستئصال فمشتركة، لا فضل فيها لواحدهم على الآخر، ومشتركٌ بينهم خصوصاً أنّ الإسلاميّين يبقون العدوّ الأوّل والأكبر، كما يبقون المرشّحين المرجّحين للوراثة. ومحلّ جسليك، يمكن أن نكتب تدمر وأبو غريب وأبو سليم، ومحلّ غولنار ولولا وأمّهما، تُكتب أسماء عديّ وقصيّ وبارزان ووطبان، ورفعت وبشّار وباسل وبشرى وآصف ورامي، وسيف الإسلام والمعتصم والساعدي…
لكنّ المشترك الأكبر والأساس أنّ هذه الأنظمة جميعاً تؤسّس استقراراً عبوديّاً يفضي حكماً إلى حرب أهليّة يكاد يستحيل اجتنابها. والأشدّ بؤساً أنّها حروب أهليّة لن تنتهي إلى استقرار ينعم به بشر أحرار. فإمّا عسكريّون وأمنيّون وحزبيّون وجهازيّون يقيمون استقراراً يشبه ما تعرفه القبور، وفي عداد هؤلاء كريموف والأسدان وصدّام والقذّافي، وإمّا إسلاميّون وشعبويّون على أنواعهم ينشرون التبديد والاحتراب والتعصّب، كأنّهم الشياطين التي أغمضت عيناً، وهي مغصوبة على النوم في قبور الاستقرار، لكنّها أبقت عيناً أخرى مفتوحة.