لعبت تركيا دوراً مهماً على مدى أكثر من خمس سنوات مضت من عمر الثورة السورية. إلا أنها اختارت أن تلعب هذا الدور من وراء ستار شفيف، وأن تؤديه في نطاق الهامش الضيق المتاح لها، الأمر الذي لم يسمح للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، توظيف تدخله المادي والسياسي الوازنين في رفع الدور التركي إلى مرتبة اللاعب الإقليمي المقرر في الشأن السوري، على نحو يعادل الدور الذي لعبته إيران، وحلفها الطائفي، في توجيه دفة التطورات العسكرية والدبلوماسية.
إلى أن وقعت محاولة الانقلاب العسكري في أواسط تموز (يوليو) الماضي، كانت تركيا تبدو مذعورة من ظلها، تتوعد وتهدد، وتضع الخطوط الحمراء، ثم تتنازل صاغرة، وتتوارى خلف خطاب يقطر مرارة، ويشي بالعجز عن الوفاء بما التزمت به علناً، الأمر الذي بدت فيه هذه الدولة الأطلسية الكبيرة مثيرة للشفقة، وباعثة على طرح مزيد من الأسئلة التي لا جواب لها، خصوصاً عندما كان يتم التحرش بها مراراً، ويجري تصغير منزلتها.
بكلام آخر، لم يكن الأداء التركي طوال السنوات الماضية مفهوماً لدى كثير من المراقبين، وكان باعثاً على الإحباط عند المعارضة السورية المسلحة، ناهيك عن المعارضة السياسية، التي كانت تدرك في قرارة نفسها أنه من دون انخراط تركي أكثر فاعلية وملموسية، فإنه من غير المقدر لثورة الحرية والكرامة أن تحدث فارقاً على الأرض، أو أن تتقدم على مائدة المساومات الدولية، لاسيما بعد أن ألقت روسيا بوزنها المرجح في الصراع المحتدم، فيما انكفأت أميركا على نفسها.
اليوم، وبعد أن عبرت أرتال الدبابات التركية الحدود المشتركة مع سورية، وانتقلت أنقرة من دور الدفاع المتراجع عن مكانتها الإقليمية، إلى طور الهجوم المتنامي، فإنه يمكن الافتراض أن سياسة تركيا حيال الوضع السوري كانت مقيّدة ذاتياً، وأنها كانت محكومة باعتبارات داخلية، سرعان ما تكشفت جهاراً نهاراً، إثر الإطاحة بعدد من كبار الجنرالات الذين كانوا خارج طوع القيادة السياسية، إن لم يكونوا ضدها.
صحيح أنه كانت هناك جملة من المحاذير الخارجية، وسلسلة من الكمائن المنصوبة أمام أي تحرك تركي مباشر على ساحة الصراع السورية المعقدة، إلا أن من الصحيح أيضاً أن ثنائية مراكز القوة الداخلية، بين الجيش والحزب الحاكم في أنقرة، كانت لها اليد الطويلة في إنتاج تلك المفارقات الفارقة في سياسة أردوغان، وفي تبهيت كل تلك التحذيرات الكلامية الفارغة التي كادت تحول هذه الشخصية الكاريزمية لزعيم حزب العدالة والتنمية، إلى مجرد ظاهرة صوتية.
فحتى الأمس القريب، ونتيجة للتكتيكات التركية الخاطئة، كانت مختلف الأطراف المتصارعة على الساحة السورية، تستخف بهذه الدولة المحورية، بما في ذلك حليفها الاستراتيجي وراء المحيط، وجيرانها في أوروبا، وحدّث ولا حرج عن روسيا، التي فرضت مزيدا من القيود على الدور التركي، وضاعفت من حدة تحسباته، إزاء ما قد يتعرض له من مخاطر جدية، يمكن أن تطال نسيجه الاجتماعي المتنوع، لاسيما بعد أن اسقطت المقاتلات التركية طائرة السوخوي الروسية.
وأحسب أن الاستدارة التي قام بها الرئيس التركي مؤخراً باتجاه موسكو، وكانت عكس التوقعات الرائجة، قد قلبت الطاولة على سائر الأطراف المنخرطة في الصراع المتفاقم، خصوصاً في الشمال السوري. فيما أدى فشل الانقلاب العسكري إلى تحرير يدي أردوغان من تلك القيود الداخلية، وتمكينه من استعادة مصداقيته كزعيم يقف عند كلمته، ولديه رؤية سياسية يستطيع الدفاع عنها، بأخذ مخاطر محسوبة بدقة، على نحو ما تجلى عنه عبور الدبابات والجنود للحدود السورية.
بذلك كله، يكون أردوغان قد صنع بنفسه، وبعد تأخير طويل، لحظته السورية المواتية ببراعة شديدة، عندما انتقل من على خط الهامش إلى قلب الملعب المفتوح أمام المزيد من المباريات اللاحقة، وأصبح لاعباً مهاجماً في خط الوسط، قادراً تسجيل أهداف سهلة، كان أولها بلا عناء ضد “داعش”، فيما يتهيأ الآن لتسديد هدفه الأكثر أهمية ضد المليشيات الكردية، التي يرى فيها معظم الأتراك خطراً أشد على بلادهم من خطر التنظيم.