تتراجع الحالة العربية وتزداد تدهوراً يوماً بعد يوم ،و لا يظهر حتى الآن أي ضوء في نهاية النفق،و خاصة في الدول الخمس سوريا والعراق و اليمن و ليبيا و السودان.ناهيك عن فلسطين و البرنامج الإسرائيلي المكشوف لابتلاع اراضيها.
والملفت للنظر ان التدخلات الخارجية السرية و العلنية من دول وهيئات ومنظمات وعصابات ابتداء من الولايات المتحدة الامريكية وروسيا وايران ودول التحالف وتركيا وانتهاء بحزب الله والحشد الشعبي والقاعدة وداعش و كذلك التدخلات السرية مثل اسرائيل واجهزة المخابرات الدولية، كل ذلك جعل المنطقة وخاصة سوريا واليمن والعراق وليبيا سوقا للقتل و التدمير و التهجير،و جعلها “بازاراً” مفتوحا تتم فيه الصفقات والمقايضات و العمولات وترتيب المصالح. وهذا البازار لم تشهده افريقيا في حرب الكونغو عام 1992 لأن الدول المتدخلة كانت افريقية اضافة الى فرنسا، ولم تشهده بهذا الاختلاط والفوضوية يوغوسلافيا عام1997.
ومع هذا فإن الإستجابة لمتطلبات التغيير لدى الدول العربية الاخرى (15) دولة لا يزال بطيئا جدا، ولا يصل الى مستوى خطورة الموقف و تسارع الضغوطات الداخلية و الخارجية، وبالكاد يكون مقبولا في الاحوال العادية. والقارئ للاوضاع العربية قبيل الربيع العربي يدرك بوضوح ان المنطقة كانت على فوهة بركان اجتماعي و سياسي و اقتصادي أو على حافة الإنهيار لا احد يدري اين ومتى يكون الإنفجار أو السقوط.
و كانت معظم دول المنطقة تصنف عالميا في “درجة الإنذارalert “ و هي درجة واحدة قبل الدولة الفاشلة. فمعدلات البطالة في الاقطار العربية و منذ عام 2005 اعلى من المتوسط العالمي ،والديموقراطية فيها ادنى مجموعة اقليمية، والتعليم في تراجع ، والانفاق على البحث العلمي يكاد يكون الأدنى، وسيادة القانون و استقلال القضاءأقل من المتوسط العالمي، ومعدلات النمو الاقتصادي كلها (باستثناء الدول النفطية) أقل من ان تولد فرص العمل المطلوبة للشباب ،فازدادت مساحات الفقروالبطالة.. و القائمة لا تنتهي.
ويبدو ان تكاثر اسباب الازمة، و غياب القيادات الوطنية الجامعة نتيجة لضغوط أنظمة الحكم الفردية الإقصائية و الفئوية والطائفية التي لا تسمح إلا لقمر واحد هو الزعيم، وعدم الرغبة بالاعتراف بالتقصير او تحمل المسؤولية، كل ذلك، و عوامل أخرى كثيرة،راحت تدفع العقل العربي المجتمعي و النخبوي ، و بتشجيع من الأنظمة و الإعلام ، لافتراض ان ما يحدث في المنطقة ما هو الا مؤامرة.
وان كل ما يجري ما هي إلا ترتيبات يرسمها الامريكان والصهاينة والانكليز، ولديهم الخطط لاعادة تقسيم المنطقة، وتجزئتها والسيطرة على خيراتها وثرواتها،و القضاء على العروبة والإسلام، و إنتاج سايكس- بيكو جديد، اضافة الى حماية اسرائيل و التموضع الاستراتيجي في المنطقة ومنع روسيا من الوصول اليها. ولذا:” فالعرب امام مؤامرة عالمية”.
وهكذا ، فالحالة العربية في نظرهم تصنعها القوى الخارجية و هي منشغلة بها ليل نهار. ويستندون بذلك الى مقولة هنا، وعبارة هناك قالها الرئيس الامريكي، او وزير خارجية دولة كبرى. أما ماذا فعل العرب؟ ماذا أنتجوا ؟ ماذا حلوا من مشاكل كبرى لديهم ؟ماذا طوروا و أبدعوا في بلادهم ؟ ماذا أسسوا في السياسة ،في الإقتصاد، في حقوق الإنسان ، في المواطنة،في مساواة المكونات الإجتماعية،في تداول السلطة ،في الصناعة ،في الزراعة،في العسكرية,في العلم و التكنولوجيا في الثقافة؟ هل انتهوا من الأرجحة بين الماضي و الحاضر؟بين العلم و الخرافة ؟ بين العقل و النقل؟ هل انتقلوا من الولاء للفرد إلى الولاء للوطن؟و من صناعة الكلام إلى بناء المصانع و المزارع؟ و من الوهم و الغرور إلى الحقيقة و التواضع؟ فلا احد يسأل.
وماذا لم يفعلوا أيضاً ،لا احد يسأل، ولا احد يتذكر القانون الذي يحكم مسيرة الشعوب في عالم ديناميكي شديد التغير. ذلك “ إن عدم الفعل أو العجز عن الإستجابة يحمل معه نفس الخطورة التي يحملها الفعل الخاطئ”.
لقد آن للعرب أن يخرجوا من نظرية المؤامرة التي انهكت الامة من اطرافها الى اطرافها، وآن لهم حكاما و سياسيين و أحزابا و مفكرين و علماءو مثقفين و منظمات مجتمع مدني ان يواجهوا الحقيقة: “إن ما يقع في المنطقة هو من صنع المنطقة، و”بازار” التدخلات العلنية و السرية إفتتحه العرب انفسهم ،حين استنجدوا بالأجنبي بدلا من أن يستنجدوا بشعوبهم و علمائهم و حكمائهم .هل هناك منطقة في العالم ينتظر نفر من حكامها و سياسييها و أحزابها و إعلامها وصول التعليمات و الأموال و الأسلحة من الخارج ،ايا كان هذا الخارج ،إلا المنطقة العربية؟. انها من صنع الحكام الذين يستمدون شرعيتهم وبقاءهم من الخارج وليس من شعوبهم، ومن صنع الانظمة التي لا تؤمن بتداول السلطة ولا تعترف بأن الاحزاب الحقيقية ليست مجرد منافس سياسي ،بل هي ألأجهزة الديموقراطية لتمثيل الشعوب، وازالة الحواجز بين الناس، ودمج الفئات المجتمعية،و تطوير التوافقات الوطنية في الفكر و الثقافة و العمل.
متى تدرك الأنظمة العربية ان الافراد والموظفين لا يستطيعون ادارة الدول والنهوض باقتصادها منفردين وانما المشاركة المجتمعية على اوسع نطاق هي الادارة الوحيدة لذلك. أليس بازار التدخلات من صنع الانظمة والاحزاب والزعامات التي تريد لمجتمعاتها ان تعيش ثقافة مفبركة تحت شعارات زائفة الغرض منها احكام السيطرة.
لم تكن هناك مؤامرة دولية لمنع العرب من الانفاق على البحث العلمي اكثر من 0.2% من الناتج المحلي الاجمالي، ولم يمنعهم أحد من تنمية اريافهم وقراهم وبواديهم حتى لا ينبت اليأس في قلوب الشباب فيلجأون الى تحطيم كل شيء. ولم تكن هناك قرارات أممية تمنع العرب من تحدبث الفكر المجتمعي على اسس علمية ،و فصل الدين عن السياسة حتى لا يكون ذلك مدخلا للتطرف و الإرهاب. و لم يتآمر العالم لمنع التحول العربي إلى الديموقراطية الحقيقية كما نراها في الهند و لا نقول في السويد.
و لم تقف الدول العظمى تمنع العرب من محاربة الفساد،ولا من انشاء مراكز الابحاث للمياه والتصحر وللزراعة وللصناعة. هذا “البازار” الذي يستعين فيه كل طرف بالشيطان لكي يدمر بلده وأهله ومواطنيه حتى يبقى في السلطة أو تنفيذاً لأوامر مموليه هو صناعة عربية. و حين يفتح “البازار” أبوابه فكل تاجر حر فيما يفعل.
المؤامرة هي في العقل الذي لا يريد أن يرى الحقيقة وفي الهمم التي لا تريد أن تجهد و تشقى في صنع المستقبل كما فعل الآخرون.