تمر القضية الفلسطينية بمرحلة مفصلية، ولا يمكن لأحد نفي حقيقة أنَ تثبيت المواطن الفلسطيني على أرضه هي إحدى أهم الاولويات في هذه المرحلة. هذا يمكن أن يكون مجرد شعار، وفي ذات الوقت يمكن أن يكون حقيقة وواقع يلمسه المواطن ويشعر به في حال تم العمل على تقوية الاقتصاد الفلسطيني بإتجاه تعزيز مقومات الصمود (اقتصاد مقاوم)، وهنا يأتي دور القطاع الخاص بما فيها المؤسسات المصرفية والشركات الاستثمارية تحديدا في توفير فرص عمل وآفاق إستثمار تخدم في مجملها الهدف الرئيس وهو تثبيت المواطن في أرضه لمجابهة سياسات الاحتلال الاحلالية والتهجيرية، وبخاصة لفئة الشباب الذين هم عماد التغيير والبناء والرافد الأساسي لمفاعيل النضال ضد الاحتلال.
لعب القطاع الخاص وما زال يلعب دورا مهما في قيادة قاطرة التنمية والاستثمار في فلسطين، واستطاع هذا القطاع الصمود والتطور تحت الاحتلال، واستمر بأداء رسالته بعد تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية أيضا، ولا زال مستمرا في الشراكة الفعلية في قيادة دفة التنمية رغم كل المعيقات والمهبطات الداخلية والخارجية.
ومن أجل وضع الأمور في سياقها الصحيح لا بد أن نقول بأن الاحتلال هو العائق الرئيس في وجه أي تطور أو تنمية في فلسطين، وأن أي حل للقضية الفلسطينية لا يمكن له أن يكون إلا حلا عادلا مرتكزا على قرارات الشرعية الدولية، وأن أي حل يراد به الالتفاف على منظمة التحرير الفلسطينية وعلى الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني هو حل مرفوض ومآله الفشل. وفي ذات الآن وفي ظل اشتداد الهجمة الاحتلالية لا بد لنا أن نقاوم مستخدمين الاقتصاد (الاقتصاد مقاوم) كأحد أدوات النضال المشروعة ضمن هامش المسموح به وطنيا، وبما ينسجم مع المعايير التي وضعتها الـــ (BDS)، وبما لا يعطي أي إشارة بأن الشعب الفلسطيني يمكن له أن يُدجن ويقبل بحل اقتصادي على حساب الحل السياسي العادل والذي يضمن له حقوقه المشروعة.
علينا أن ندمج ما بين السياسية والاقتصاد في علاج مشكلاتنا الداخلية وتحديدا توظيف الاقتصاد في صالح المشروع الوطني وهنا أعتقد بأن شركة مثل شركة فلسطين للتنمية والاستثمار “باديكو القابضة” منذ تأسيسها عام 1994 أخذت على عاتقها مهمة المساهمة في بناء وتنمية الاقتصاد الفلسطيني كأحدى دعائم بناء الدولة العتيدة، واستطاعات وعلى مدى أكثر من عشرين عاما أن تضخ في الاقتصاد الوطني مئات الملايين من الدولارات في مشاريع اقتصادية تنموية، فقد نمت أصول مجموعة باديكو القابضة واستثماراتها تدريجيا منذ سنوات التأسيس من 172 مليون دولار (رأس المال المكتتب للشركة في حينه) لتزيد حاليا عن 830 مليون دولار ناهيك عن أصول الشركات الشقيقة والمشاريع الاخرى التي عملت باديكو وشركاتها على إنشائها بالشراكة مع مستثمرين آخرين ، وهذا التطور أتى بجهود القائمين على هذا المشروع الاقتصادي الوطني، ومن خلال ثقة المساهمين وايمانهم الراسخ بأن وجود شركات وطنية هو ركيزة أساسية للبناء والعطاء والتكامل مع المشروع السياسي الهادف إلى إنهاء الاحتلال وبناء الدولة المستقلة.
إعلان “باديكو القابضة” عن إصدار سندات تجارية بقيمة 120 مليون دولار في اكبر عملية إصدار سندات دين تشهدها سوق المال الفلسطينية بمشاركة اثنا عشرة بنكا ومؤسسة مالية من فلسطين وخارجها، توظف في مشاريع متوسطة وطويلة المدى، يؤشر على أن هناك الكثير من المجالات الاقتصادية التي من شأنها أن توحد المؤسسات المالية وتوظيف طاقاتها باتجاه دعم صمود المواطن الفلسطيني من خلال إقامة مشاريع متنوعة تغطي جميع المجالات الاقتصادية الحيوية، وتساهم بشكل جدي وفاعل في تشغيل واستيعاب الأيدي العاملة والتخفيف من نسبة البطالة والحفاظ على المكنون الشبابي والمعرفي في فلسطين والاستفادة منه والحد من هجرة العقول، فقد كانت مساهمة هذه المؤسسات المالية في وقتها وفي مكانها الصحيح ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نتقدم لهم بالشكر الكبير على مساهماتهم لصالح الوطن والمواطن.
إن مساهمات المؤسسات المصرفية على اختلافها في المشاريع ذات البعد التنموي والوطني في ذات الوقت هو أمر مهم ومطلب ضروري لتتكامل جميع مؤسسات الوطن باتجاه تحقيق الهدف والمتمثل بإنهاء الاحتلال، هذا التكامل بين الخاص والعام سيكون له أثر كبير في تعزيز ثقة المواطن بمؤسسات القطاع الخاص وبأهدافها الوطنية من خلال مشاركتها ومساهماتها ليس فقط من منطلق “المسؤولية المجتمعية” بل أيضا من خلال خلق المشاريع المدرة للدخل والتي يستفيد منها المواطن في الحفاظ على حياة كريمة له ولعائلته، مما سينعكس ايجابا على تمتين الوضع الداخلي وتعزيز صمود المواطن على أرضه.
لقد أثبتت التجارب التاريخية جميعها بأن عملية التحرر من الاحتلال بحاجة إلى وحدة داخلية، وبحاجة إلى نهضة في أكثر من مجال أهمها المجال العلمي الذي تنبه له الشعب الفلسطيني مبكرا جدا، واستطاع أن يضع الكثير من البصمات في هذا المجال، وعلينا الآن وفي ظل تحول العالم إلى قرية صغيرة بفضل التكنولوجيا أن نطور أكثر في هذا الجانب ونتجه نحو تطوير البحث العلمي وتحسين جودة التعليم، ونقل الجامعات الفلسطينية من مرحلة استهلاك المعرفة إلى مرحلة انتاجها وتصديرها لأن هذا الفعل سيساهم حتما في تعزيز أدوات الصمود وخلق فرص عمل كثيرة وتطوير للواقع المعاش مع الحفاظ على ابقاء الابداع والمبدعين في جامعتنا ومؤسساتنا البحثية والتشبيك مع كل المؤسسات الأكاديمية ذات العلاقة ليس فقط من أجل تطوير البحث العلمي بل أيضا من اجل تعريف العالم بأن هذا الشعب يستحق الحياة والاستقلال والعيش ضمن دولة حرة مستقلة وذات سيادة، وفي هذا السياق أيضا فإن المطلوب من القطاع الخاص ومن المؤسسات المصرفية هو المساهمة بشكل أكبر في تطوير البحث العلمي، والاستفادة من الفرص الاستثمارية الكبيرة الذي يوفرها هذا القطاع وتوظيف كل ذلك في خدمة المشروع الوطني، وهذا ما تسعى إليه على سبيل المثال “وقفية القدس للبحث العلمي وجودة التعليم” التي اعلن عن تأسيسها في بدايات العام 2015.
وفي الجانب الآخر علينا أن لا نتعامل مع ممارسات الاحتلال في مدينة القدس، عاصمة الدولة الفلسطينية العتيدة، كأمر واقع لا يمكن التصدي له إلا من خلال المواجهات اليومية التي يخوضها سكان المدينة المقدسة مع الاحتلال، بل أيضا علينا أن نساند هذا الفعل المقاوم عِبر تثبيت وجود الفلسطينيين وتعزيز صمودهم والحفاظ على الطابع العربي الفلسطيني في هذه المدينة، وهذا بحاجة إلى إقامة المشاريع الاستثمارية إلى جانب المشاريع الخيرية فكلاهما يجب أن يكون مكملا للآخر، وهناك ضرورة لتوظيف أكبر قدر ممكن من المشاريع في مدينة القدس ليس فقط لخلق فرص عمل والقضاء على البطالة المنتشرة بين الشباب تحديدا، بل أيضا لمجابهة محاولات الاحتلال بفرض الأمر الواقع وتهويد المدينة ومحو معالمها التاريخية العربية والإسلامية والمسيحية. وهنا أيضا يجب إشراك المؤسسات المصرفية في عملية الحفاظ على المدينة المقدسة من خلال توظيف ودعم الاستثمار فيها، مع التأكيد على أن هناك العديد من المؤسسات التي يمكن لها أن تحتضن أو أن تشترك في هذا الفعل الوطني الهادف إلى تعزيز صمود القدس، وصندوق ووقفية القدس الذي اعلن عن تأسيسه رسميا في نيسان 2014، يشكل نموذجا حيا لكيفية الشراكة والتشبيك مع المؤسسات المحلية، أو مع المؤسسات العربية والإسلامية والدولية وتجيير كل ذلك من أجل دعم صمود المدينة وتنميتها.
القطاع الخاص له دور وطني لا أحد ينكره ومن غير المعقول أو المقبول أن يتم إنكاره، هذا القطاع الذي تنبه منذ بداية الانقسام في حزيران 2007، لمخاطره وسعى ولا يزال يعمل من اجل الوصول إلى مصالحة حقيقية بين مكونات النظام السياسي الفلسطيني، وبادر وقبل الانقسام استشعارا منه بالخطر المحدق إلى إصدار “مبادرة القطاع الخاص من أجل فلسطين” وذلك في شهر أيار 2006، والتي تم لاحقا تطويرها والبناء عليها وصولا إلى إتفاق القاهرة 2011، لا يمكن له إلا أن يكون جزءا أصيلا من هذا الشعب، وعليه مسؤوليات جسام في دعم صمود المواطن من ناحية والمشاركة في بناء مؤسسات الدولة العتيدة من ناحية أخرى، وهو شريك أساسي في هذا الوطن وسيبقى يعمل من أجل بناء الدولة وإنهاء الانقسام ودحر الاحتلال، وهذه أولى أولويات القطاع الخاص.
وعودة على البداية بأن القضية الفلسطينية تمر بأدق مراحلها ويحيط بها العديد من المخاطر، وهناك محاولات عديدة لكسر حالة الجمود السياسي الحاصل، سواء من خلال طرح ما أصطلح على تسميته بالمبادرة الفرنسية، أو ما يتم الحديث عنه في قرب طرح مبادرة مصرية، فإن المطلوب هو ليس العودة إلى المفاوضات بشكلها السابق بل المطلوب هو أن يكون شكل ومحتوى هذه المفاوضات ومضمونها مختلفا باتجاه وضع إطار زمني ومرجعية واضحه تؤدي في نهايتها إلى إنهاء الاحتلال وفق ما نصت عليه الشرعية الدولية، ونحن هنا نقول بأن أملنا وثقتنا بشقيقتنا الكبرى جمهورية مصر العربية كبير، لأنها لم تخذل الشعب الفلسطيني يوما.
وأقول لكل الحالمين في دولة الاحتلال، ومن يفكر في ذات سياق تفكيرهم بأن لا يبحثوا عن بديل لمنظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني وحاضنة نضاله الوطني، لأن محاولاتهم ستفشل كما فشلت سابقاتها، وأن لا يبحثوا أيضا عن حلول اقتصادية للقضية الفلسطينية لأن أحدا لن يقبل بها وسيكون مصير أي حل لا يحقق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني هو الفشل، فالشعب الذي قدم الغالي والنفيس من أجل حريته قادر على ترتيب بيته الداخلي وقادر أن يخرج من تحت الرماد وينطلق من جديد كطائر العنقاء ليواصل دربه نحو الحرية وإقامة دولته كاملة السيادة على حدود الرابع من حزيران للعام 1967، بعاصمتها القدس الشرقية وعودة اللاجئين وفق القرار 194.
لقد حان الوقت لندرك جميعا، داخل وخارج الحكم، أن هدف إنجاز المشروع الوطني بالحرية والاستقلال والدولة من الصعب تحقيقه بل ربما من المستحيل في ظل تجاهل تطلعات المواطنين نحو عيش كريم وعدالة وصلاح في إدارة الحكم، وعلينا استعادة ثقة المواطن بالقائمين على إدارة الصراع، وتحصن أفراد المجتمع ومؤسساته وتمكنه من مواصلة الصراع مع الاحتلال، وإعادة بناء الجبهة الداخلية على أسس الشراكة التامة، توفير الأمن الشخصي وتطبيق القانون على الجميع.
إن الحالة المعاشة في الوقت الراهن، والتي أقل ما يمكن وصفها بأنها سيئة، تدفعنا لإعادة التفكير بـشكل وطبيعة الأدوات والسياسات المستعملة لإدارة الشأن الوطني الداخلي؛ وشكل وطبيعة الأدوات والسياسات المستعملة في مقاومة الاحتلال وصولا إلى الحرية والاستقلال؛ وشكل وطبيعة الأدوات والسياسات المستعملة في إدارة القضية الفلسطينية على الساحة الإقليمية والدولية.
إن ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني، بحاجة إلى إنهاء الانقسام بكل جوانبه، على أساس اتفاق القاهرة، وما يتبع ذلك من قضايا تتفرع وتتقاطع مع هذه الاتفاقات بما فيها إعادة اعمار قطاع غزة، وفك الحصار المفروض عليه؛ وتفعيل لجنة تفعيل وتطوير منظمة التحرير الفلسطينية، (الإطار القيادي المؤقت)؛ وتشكيل حكومة وحدة وطنية، من فصائل العمل الوطني، تعمل على تسيير الأمور الحياتية العامة والتحضير لانتخابات رئاسية وتشريعية خلال مدة أقصاها عام؛ وبالتوازي تعمل الجهات المختصة في منظمة التحرير على التحضير لانتخابات المجلس الوطني ليكون ممثلا للكل الفلسطيني والجسم التشريعي الأهم، كمقدمة ضرورية لتفعيل كل مؤسسات منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
القطاع الخاص والشراكة الوطنية