يبدو أن الثورة التي انتظرناها طويلا في الأردن، توشك على الانطلاق؛ أعني ثورة لإصلاح التعليم.
السنوات القليلة الماضية شهدت نقاشات جدية حول واقع التعليم المتردي. واتُخذت سلسلة من الخطوات التنفيذية لمعالجة المشاكل المتراكمة، لكنها ظلت قاصرة عن الأهداف والطموحات المطلوبة. وفي معظم الحالات، كانت إصلاحات في القشرة، ولم تمس جوهر العملية التربوية وفلسفتها.
والشاهد على ما نقول، استمرار المعضلات الكبرى من دون حلول؛ مخرجات التعليم، ومستوى الخريجين، وانعدام التنسيق بين قطاعي التعليم والعمل، وتراجع دور مؤسسات التعليم الريادي، وعجزها عن التصدي لمهمات التنوير والتحديث على مستوى المجتمع ككل.
انهيار السرديات الكبرى في عالمنا العربي؛ القومية والمواطنة والتعايش والسلم الأهلي، كشفت مأزق التعليم، ودوره الهدام في تنشئة أجيال على الكراهية والعنف ونبذ الآخر، واحتقار العقل لحساب سمتيات أيديولوجية محنطة، لا صلة لها إطلاقا بموروث الأمة الديني والحضاري.
في المقابل، وضعت الثورة الرقمية الهائلة، والتطور المعرفي، قطاع التعليم أمام تحدٍ وجودي في عالم لا يرحم المتخلفين عن ركب الثورة التكنولوجية والمعرفية.
رغم ذلك، يظل الأردن من بين الدول القليلة في العالم العربي الذي ما يزال يملك فرصة النهوض بقطاع التعليم، واللحاق بركب الحداثة. ولديه من شروط النجاح ما لا يتوفر لآخرين؛ روح الريادة، وخبرة متراكمة، واتصال قوي ومستدام مع منصات المعرفة العالمية، وموارد بشرية قادرة على إحداث التغيير. وفوق ذلك كله، قيادة سياسية تؤمن بقيم العصر، وتعرف قيمة التعليم في حياة الأمم.
والظاهر حاليا أن صبر القيادة على عملية إصلاح قطاع التعليم المتباطئة قد نفد. هذا ما توحي به كلمات جلالة الملكة رانيا العبدالله في جلسات النقاش التي تحضرها مؤخرا، والمكرسة لمناقشة تحديات التعليم وسبل النهوض به.
في الجلسة التي عقدت أول من أمس، نقلت وسائل الإعلام عن الملكة قولها إن الصبر مطلوب في كل المجالات باستثناء التعليم، وذلك لكون العملية التعليمية تسير بسرعة كبيرة، وأشياء جديدة تطرح يوميا، وإذا لم نواكبها في مناهجنا سنتراجع للخلف.
المواضيع التي تطرقت إليها جلسة النقاش الثانية، وكذلك الجلسة الأولى قبل أسابيع قليلة، تمس جوهر القضايا المصيرية في التعليم. ويُستدل من تلك المناقشات والفرق التربوية المشاركة فيها، أننا إزاء عملية مبرمجة، لإطلاق خطة متكاملة تمثل في جوهرها ثورة في قطاع التعليم طال انتظارها.
أكاديمية الملكة رانيا لتدريب المعلمين، ستكون منصة رئيسة من منصات التغيير. لكنها لا تكفي وحدها إذا لم تتزامن مع تغيير على مسارات أخرى، كالمناهج والامتحانات، وتطوير مرحلة التعليم للطفولة المبكرة، وقطاعي التعليم المهني والجامعي.
وكي لا نُتهم بالسوداوية، تتعين الإشارة إلى التغييرات الأخيرة التي أحدثتها وزارة التربية والتعليم على العديد من الكتب المدرسية، وتحمل في جوهرها لمسة تقدمية.
طالما كانت الملكة رانيا في طليعة القوى المطالبة بإصلاح التعليم في الأردن. وقد ترجمت مواقفها العنيدة، بسلسلة من المبادرات لدعم الريادة في هذا القطاع، خاصة المعلمين، وأطلقت عقب ذلك مبادرة “مدرستي”.
لكن، وكما الحال في ميادين أخرى، اصطدمت طموحات الملكة لتطوير التعليم بمواقف قوى محافظة، وحكومات مترددة لا ترى في قطاع التعليم أولوية تستحق المجازفة.
حديث الملكة مع المشاركين في الجلسة النقاشية، وقد نشرت “الغد” مضمونه أمس، ويستحق من القراء الكرام العودة إليه للتمعن في معانيه، يعطي جرعة كبيرة من الأمل بثورة على وشك أن تحدث في قطاع التعليم، لأننا بحق لم نعد نحتمل الصبر أكثر.