تدخلُ تركيا في شمال سورية أعادها إلى قلب الأزمة. خطوة أكمل بها الرئيس رجب طيب أردوغان «انقلابه» السياسي الدراماتيكي. فك الحصار المضروب على بلاده بفتح الأبواب مجدداً مع روسيا وإيران وإسرائيل، و»هادن» نظام الرئيس بشار الأسد. وها هو يفك الحصار الداخلي بتحولات كبيرة بعد احباط المحاولة الإنقلابية. باشر إبعاد «داعش» وكذلك الكرد إلى ما وراء الحدود، وبعيداً عنها. كان في وضع لا يحسد عليه منذ إسقاط الدفاعات التركية الطائرة الروسية في نوفمبر العام الماضي. واجه مأزقاً خانقاً. كانت العلاقات في ذروة التوتر مع موسكو وطهران وبغداد ودمشق. فيما كانت واشنطن تصم آذانها عن مطالبه، غير مبالية بمخاوفه وهواجسه. والكرد يتقدمون نحو إقامة «إقليمهم» على طول الحدود. و»تنظيم الدولة» يوسع دائرة استهدافه المدن التركية. إضافة إلى العلاقات الباردة مع تل أبيب والمشاحنات المستمرة مع الاتحاد الأوروبي بسبب اللاجئين وقضايا أخرى. كانت أنقرة تعيش كابوس انتقال الفوضى إلى أراضيها. يلاحقها شبح التقسيم الذي يفتك بجاريها العربيين. فهي تدرك أن «الدولة الكردية» الحقيقية، إذا قامت، ستكون على حساب وحدتها وجغرافيتها. فهنا الكتلة السكانية الكبرى والجغرافيا الواضحة «والنقية» عرقياً إلى حد ما، وليس في سورية والعراق وإيران.
تأخر أردوغان طويلاً في وقف أخطائه وتصحيح مسار سياساته. لكنه عرف في النهاية كيف يمكنه هو أيضاً أن يبدل المشهد الاستراتيجي في الإقليم وسورية خصوصاً. ويعود لاعباً لا يمكن القفز فوق مصالح بلاده ودورها. ويتضح من عمليات القوات التركية بعد تحرير جرابلس من «داعش» أن الهدف الأكبر كان ولا يزال وقف تقدم الكرد والحؤول دون ربطهم بين منطقتي شرق الفرات وغربه، لمنع قيام جغرافيا واحدة على غرار كردستان العراق. وكان هذا واضحاً منذ البداية، إذ لا يمكن أنقرة أن تتساهل حيال إقليم للكرد في سورية أياً كانت النتائج. ولن تسمح لحزب العمال الكردستاني بأن يحكم عليها الطوق جنوباً وهو يخوض حرباً واسعة شرق البلاد. لهذا السبب غضت الطرف عن كل العناصر «الجهادية» التي عبرت الحدود إلى سورية. ولم تتحرك للرد على عمليات سابقة لتنظيم «الدولة الإسلامية». لم تكن تتوقع أن يتوسع الكرد سريعاً إلى غرب الفرات بعد دخولهم منبج. وهالها أن تمد واشنطن وموسكو بعدها يد العون إلى «حزب الاتحاد الديموقراطي» الذي لا يخفي ارتباطه بحزب العمال، مثلما لم يخف طموحه إلى بناء كيان مماثل لما بناه أخوانه شمال العراق، بعد إعلانه مشروع الفيديرالية حلاً للأزمة السورية.
كانت تركيا مرشحة لمأساة مشابهة لما تشهده جارتها الجنوبية. وجاء تدخلها في شمال سورية ليرسخ ما تعتبره ثوابت تتعلق بمستقبل الدولة ووحدة أراضيها واستقرارها وأمنها القومي. من هنا توكيد الرئيس أردوغان وتكراره بالتوازي مع التدخل في جرابلس أن أنقرة حريصة على وحدة سورية ولن تسمح بتقسيمها. ولم يعد متاحاً تالياً للكرد بمواصلة مشروعهم. لقد استعجل «حزب الاتحاد الديموقراطي» في طرح الفيديرالية. مثلما أخطأ في التعويل على الولايات المتحدة رافعة لتحقيق هذا المشروع. وهي في الأصل لم تعبر عن تأييد لمثل هذا التوجه. كان همها ولا يزال دعم أي طرف لتحقيق غاية واحدة هي قتال «داعش» فقط. وكان طبيعياً أن تنحاز إلى شريكها التاريخي عندما وجدت نفسها أمام خيار وحيد: إما هذا الشريك بوزنه وثقله وإما الحزب الكردي. واستعجل «الاتحاد الديموقراطي» أيضاً في المناداة بالفيديرالية فيما النظام راسخ بعد خمس سنوات من الحرب الأهلية، ويحظى بدعم واسع روسي وإيراني. ولم يتوان أخيراً عن توجيه سلاحه إلى صدور الكرد في الحسكة توكيداً لرفضه طموحاتهم. تعامى عما قدموا إليه من خدمات بوقوفهم على «حياد» لم يمنعهم من مواجهة فصائل مقاتلة، حتى أنهم ساهموا أخيراً في حصار الأحياء الشرقية لحلب! وأخطأوا عندما تحينوا فرصة ضعف شركائهم في الوطن وتشتتهم. وهم بالتأكيد يتحملون مسؤولية ضياع تفاهمهم مع هؤلاء الذين بدورهم لم يلتقوا على مشروع واضح واحد يطمئنهم ويطمئن جميع الأقليات.
يدفع «حزب الاتحاد» اليوم فاتورة هذه الأخطاء. واشنطن تناديه بالعودة إلى شرق الفرات. ويجد نفسه أمام حرب مع النظام في دمشق تأخرت خمس سنوات، وكان لها أن تبدل كثيراً من المعادلات لو انخرط فيها باكراً مع باقي الفصائل. وإيران تغض الطرف عن التدخل التركي بعدما كانت لأشهر خلت ترفع سيف التحذير والتهديد بوجه مثل هذا التدخل. ولم يفلح مكتبه التمثيلي في موسكو في استدرار الدعم المطلوب لحمايته من هذا التدخل. كان عليه أن يدرك أنه الطرف الأضعف، إن لم يكن الضحية، في أي تفاهمات بين الكبار. هذا من دون الحديث عن تداعيات الدعم الأميركي للكرد في سورية، كما في العراق. فهو لم يرتبط أو يرهن بضمانات يسعى إليها هؤلاء نحو مزيد من الإستقلال عن السلطة المركزية في دمشق أو بغداد. كما أنه يزيد من موجة الاستياء من مواقف واشنطن في أوساط العرب، السنة خصوصاً في كلا البلدين وأبعد منهما. فهل يعقل ألا يكون الحزب وضع في اعتباره أن تمدد قواته خارج بيئته لن يتيح له القدرة على إدارة مناطق واسعة لا يشكل الكرد فيها غالبية، من الحسكة إلى غيرها؟ ألم يحسب حساباً لما قد ينجم عن هذا التمدد من توترات في أوساط المكونات الأخرى في البلاد، خصوصاً الأكثرية السنية، علماً أن منظمات دولية اتهمت «وحدات حماية الشعب»، ذراعه العسكرية، بالتطهير العرقي في مناطق شمال شرق سورية؟
الظروف والتفاهمات التي أتاحت لتركيا التدخل ميدانياً قد تنتهي بإقامة «منطقة آمنة»، من دون الحاجة إلى استعجال إعلانها صراحة. كانت العقبة أمامها ولا تزال رفض الولايات المتحدة، وحلف شمال الأطلسي. تذرع البنتاغون طويلاً بكلفتها العسكرية وما قد تجره من تدخل ميداني واسع لمواجهة قوات النظام السوري وحلفائه أيضاَ، خصوصاً بعد التدخل الروسي. مع أنه بادر سريعاً إلى تحذير النظام ولجمه خوفاً على عدد من مستشاريه في الحسكة! وإذا كانت المياه عادت إلى مجاريها بين موسكو وأنقرة، فإن الكرميلن قد لا يسكت كما فعل حيال التقدم نحو جرابلس. هو مستعد بلا شك لتقديم كل ما يمكن أن يوطد العلاقات بين العاصمتين، لكنه يدرك في النهاية أن ثمة حدوداً لابتعاد تركيا عن شركائها التقليديين والتاريخيين، من أميركا إلى أوروبا. إضافة إلى أن مستقبل حلب ولاد متاعب لجميع اللاعبين. فالمدينة سواء شملتها المنطقة الآمنة أو كانت على حدودها تشكل خطاً أحمر لكثيرين. ومثلما لن تسكت حكومة «حزب العدالة والتنمية» على عودتها إلى حضن النظام، كذلك دمشق ترى إلى استعادتها شرطاً من شروط ترسيخ «شرعية» هذا النظام. أي أنها خط أحمر أيضاً لها ولحليفيها الروسي والإيراني.
يبقى أن من نتائج هذا التدخل التركي أن دفْعَ أنقرة قوات «الجيش السوري الحر» وفصائل إسلامية معتدلة إلى الإمساك بالمناطق التي يخليها «داعش» يسبغ على هذا الجيش «شرعية» طالما طمح إليها. بعد موقعة جرابلس سيضعف موقف الخائفين من «اليوم التالي» لإسقاط النظام. ستتلاشى هواجسهم من استيلاء «تنظيم الخلافة» على البلاد بعد التقهقر الذي أصابه ويصيبه. أبعد من ذلك لم يعد متاحاً أن ينازع أيُ طرف «الجيشَ الحر» وشركاءه على المناطق التي يتقدم إليها، ما دام يحظى بدعم تركيا وحمايتها. بات الأمر يتعلق بهيبة دولة كبرى في الإقليم لها ما لغيرها في الساحة السورية. وهي استعادت الآن الدور الأكبر سياسياً على الأقل في التأثير في قرارات «الهيئة العليا للمفاوضات» والفصائل المقاتلة ما دامت تقدم غطاء لهذه الفصائل المنضوية تحت عباءة الهيئة. باتت «المنطقة الآمنة» (أو الشريط السني) أمراً واقعاً، ولا حاجة إلى إعلان قيامها رسمياً. ولا داعي لاعتراض المعترضين الذين بدوا لفترة يتسابقون لشراء ود الكثير من قيادات «الجيش الحر» لعل ذلك يسهل قيام «مجلس عسكري» مشترك منه ومن الجيش النظامي يكون عماد الهيئة الانتقالية.
لو انخرط «حزب الاتحاد الديموقراطي» في صفوف المعارضة وهيئاتها منذ اندلاع الأزمة، ولو عرفت الفصائل السياسية والمقاتلة كيف توحد رؤيتها لجمع كل المكونات خلف مشروع واضح، لكان مسار الأزمة في سورية مختلفاً بالتأكيد. ولو تفادت إدارة الرئيس أردوغان كماً كبيراً من الأخطاء، وتحاشت الوقوع في الحصار الذي ضرب عليها في الداخل والخارج… لكان المشهد الاستراتيجي في بلاد الشام غير ما هو عليه اليوم. لا يعني هذا أن تدخلها المتأخر سيسهل الحلول أو التسويات. كل تدخل يفاقم الأزمة ويضيف إلى تعقيداتها تعقيداً. والناظر إلى خريطة سورية اليوم يدرك حجم التدخلات الخارجية التي استباحت سيادة البلاد، ولم تترك مكاناً لأهلها!