قد يبدو السؤال أعلاه نافلاً، ولا مبرر له عند كثير من المراقبين والفضوليين، خصوصاً في غمرة الارتباك الراهن لدى المتحالفين في القوائم، وحالة عدم اليقين السائدة في أوساط المتسابقين للفوز بقصب السبق في الماراثون الانتخابي، ناهيك عن القلق المضاعف لدى عشرات النواب السابقين، ممن جازفوا بخوض التجربة مجددا، من دون أن يكون في سجلهم تحت القبة ما يدعو إلى الاحتفاء بعودتهم مرة أخرى، إلا إذا كان الرهان على ضعف ذاكرة الناخبين ما يزال قائماً كما كانت الحال في الأمس القريب.
غير أن سؤال من سيربح في الانتخابات الوشيكة، هو السؤال الوحيد المهيمن على عقول المرشحين المفعمين بالقلق المشروع، وبال مؤيديهم في الروافع الحزبية والقواعد العشائرية والحمائلية، فضلاً عن الرأي العام والإعلام، ومراكز صنع القرار، وغيرهم، باعتبار الفوز هو الهدف الأغلى على الإطلاق، والغاية النهائية لتعب الأعصاب، ونفقات حملات الدعاية والإعلان، وتبرير الذات، خصوصاً للذين يرون في ذواتهم قادة سياسيين مخضرمين.
مع ذلك، فإن هناك ما يشبه التوافق الواسع، إن لم نقل التسليم الكامل بحتمية اكتساح حزب جبهة العمل الإسلامي للعديد من الدوائر الانتخابية في العاصمة وغيرها من القصبات، استناداً لتجارب انتخابية سابقة، جرى آخرها قبل نحو عقد من الزمان، حين كانت جماعة الإخوان المسلمين تتسيد الحالة الانتخابية والحياة السياسية، وسط فراغ حزبي شبه تام. وفي المقابل، هناك من يرى أن مياهاً كثيرة جرت، على الأقل منذ ثورات “الربيع العربي”، بدلت المزاج العام، وجرفت في طريقها الكثير من القناعات التقليدية.
من المنطقي أنه لا يجوز التقليل من وزن الإسلام السياسي كعنصر مرجح في تشكيل اتجاهات الناخبين إلى اليوم، رغم كل الاخفاقات التي رافقت تجربة “الإخوان” في الحكم على المستوى العربي، وضحالة مساهماتهم وإنجازاتهم في الحياة البرلمانية محلياً. إلا أنه ينبغي عدم المبالغة في الاعتقاد أن أمر هذا الاكتساح هو تحصيل حاصل، ومفروغ منه، على قاعدة افتراض مستمد من الماضي، الذي مضى بكل ما له وما عليه، قوامه أن ضعف الأحزاب المنافسة هو البطاقة الرابحة لجماعة متغلغلة في النسيج الاجتماعي.
وإذا كان صحيحاً أن الحياة الحزبية لدينا ما تزال تعرج، إلا أن من الصحيح أيضاً أن متغيرات ومعارف وعوامل لا حصر لها، قد دخلت على الخط في غضون السنوات العشر الماضية، وتركت آثارها المتفرقة على توجهات ومواقف المواطنين، الذين لم يعودوا مجاملين كما كانوا من قبل، يستقون أفكارهم من المنابر، ويقبلون الشعارات الملتبسة، بما في ذلك شعار “الإسلام (السياسي) هو الحل”، بل باتوا أقل ثقة بما يعرض عليهم من مسلمات، ويمتلكون حساً نقدياً صارماً إزاء كل الأفكار والطروحات.
وأحسب أن مخرجات ثورة المعرفة وثورة الاتصالات، أضحت إحدى أهم المتغيرات الحاكمة في توجيه الرأي العام في هذه الآونة، وفي تكوين الآراء الجديدة الفاعلة، وبناء القناعات والمحاكمات العقلية الصارمة، بمنأى عن الانطباعات الذهنية العابرة، وفق ما كانت عليه حال أغلبية الناس في بلادنا، أيام كان يسهل على الخطباء المفوهين حث الجمهور بالعاطفة الجياشة، بالتخويف من التنوع والتعددية، ومخاطبة البسطاء بالدعوة الدينية ليس إلا، لأخذ هذا الأمر وترك ذاك.
لم يتم اختبار عمق هذه المتغيرات الكاسحة على اتجاهات الرأي العام، ولم يتبين لنا بعد مدى أثر هذه التحولات في البنية الفوقية لمجتمع منفتح على ثقافات ومعارف وقيم العصر. غير أن ما تمور به صفحات الصحف اليومية، ومواقع التواصل التفاعلي على الشبكة العنكبوتية وفي المنتديات، من أفكار غير كلاسيكية، وسجالات فكرية ومناقشات حامية الوطيس، يعطي إشارة حاسمة على أن تبدلاً ما يجري تحت القشرة الاجتماعية الرقيقة، قد تنجلي حقائقها المفاجئة عما قريب، وتتم ترجمتها أرقاماً ومعدلات، عندما تقول صناديق الاقتراع كلمة الفصل النهائية.
هكذا، فإن سؤال من سيربح الانتخابات لا جواب عنه الآن، وإلا لما كانت هذه انتخابات ولا ما يحزنون. فيما تظل الإجابة معلقة في داخل الصندوق، ولو إلى حين.