أمسكتنا الذكرى السنوية الأربعون لمجزرة تل الزعتر متلبسين بآفة النسيان اللعينة. وكادت هذه المذبحة الرهيبة تمر من دون التفاتة إلى الوراء من جانب أولياء الدم، ربما لهول ما جرى فيها من أهوال حصار وتجويع وذبح وهتك وموت جماعي، لم تندمل جراحها الغائرة بعد؛ أو ربما لكثرة ما تراصف في الذاكرة الجماعية المستنزفة من مشاهد لاحقة، فاقت كل ما سبقها من مقارفات دموية، فاضت فظائعها المنقولة على هواء البث المباشر، حدود مجزرة مضى عليها أربعة عقود كالحة.
ولعل أفضل من حصّن هذه المجزرة ضد النسيان، وأبقى ذكراها حية في الوجدان العام، كان الراحل محمود درويش، في ملحمته الشعرية الباذخة “أحمد العربي”، التي خلد فيها مقاوماً من لحم ودم، اسمه أبو أحمد الزعتر، قضى نحبه بين الآلاف من أهله وجيرانه، في أكبر مذبحة ليست من صنع إسرائيل. إذ كان مطلع هذه القصيدة الطويلة: “ليدين من حجر وزعتر، هذا النشيد لأحمد المنسي بين فراشتين. مضت الغيوم وشردتني، ورمت معاطفها الجبال وخبأتني”.
ومع أنني لا أميل إلى الكتابة الاحتفالية في المناسبات، بما فيها المؤلمة، إلا أن الذكرى السنوية الأربعين لهذه المجزرة، التي مرت قبل أيام، أملت نفسها عليّ، وحاصرتني بشدة، كونها واقعة تاريخية متزامنة مع سلسلة من المجازر اليومية المتنقلة، تجري على أيدي النظام ذاته الذي قام بتلك الجريمة في زمن ما قبل عصر الهواتف المحمولة، الأمر الذي يبدو فيه تل الزعتر بقعة دم فلسطينية لبنانية صغيرة، وسط بحر طافح بالدماء السورية القانية.
ولأصحاب الذاكرة الضعيفة، وذوي العيون الكليلة، ممن لا يرغبون في رؤية الحقيقة الصادمة، فإن ما وقع في تل الزعتر كان مذبحة اقترفتها مليشيات انعزالية لبنانية، بالتعاون المباشر مع جيش الأسد الأب، الذي أطبق الحصار وجوّع المخيم لمدة 52 يوماً، وأمّن التغطية النارية الكثيفة بـ55 ألف قذيفة، كي يسهل اجتياح بقعة يسكنها 20 ألف لاجئ فلسطيني، و15 ألف فقير لبناني، ومن ثمة إزهاق أرواح آلاف البشر، وتشريد البقية الباقية إلى اليوم.
وعليه، تكاد واقعة تل الزعتر أن تكون، بحذافيرها الميدانية، مجرد تمرين عملي لما سيقوم به “حماة الديار” بعد ست سنوات في حماة تحت جنح الظلام، وما يواصلون القيام به الآن في عدد لا يحصى من المدن والبلدات السورية، بالتعاون هذه المرة مع مليشيات من هوية طائفية مختلفة، بأسلحة أكثر فتكاً، وبسادية مفرطة، الأمر الذي يبعث في الذاكرة الغاصة بشريط طويل من الصور اليومية المتدفقة، مجزرة تل الزعتر على نحو أدهى وأمر.
وقد يسأل سائل: ما نفع استرجاع مثل هذه الوقائع الدارسة، فيما المشهد العربي الراهن يعج بالفواجع اليومية المبرحة؟ وقد يقول قائل: ألا تنطوي هذه الاستعادة على نوع من إثارة الأحقاد النائمة، في وقت ينبغي فيه هدهدة النفوس المكلومة، وتطبيب الجراح الراعفة؟ وقد يسوق البعض أسئلة أخرى وجيهة، لو أن غض البصر يجدي مع القتلة، وأن سياسة الإفلات من العقاب تكبح من جماح نظام استسهل الانتقال من جريمة كبرى إلى جريمة أكبر.
والحق أن الغاية من الوقوف قليلاً بين يدي ذكرى استشهاد تل الزعتر، لا صلة له بمشاعر الثأر والانتقام من نظام لم يعد يخجل، ولا يخشى ارتكاب جرائمه بصورة علنية، بل يقوم بتوثيقها أحياناً بالصوت والصورة. وإنما هو لتذكير من أسقطوا من حسابهم فعل جريمة لا تسقط بالتقادم، ومخاطبة بعض من ما يزالون على غيهم، سادرين خلف شعار مقاومة نظام لم يطلق في الجولان رصاصة واحدة، بأنهم واهمون بالدفاع عن قلعة الممانعة.
وقد تكون ذكرى تل الزعتر مناسبة سانحة للقول بفم ملآن: إن تلك الجريمة المروعة، كانت فاتحة عريضة لجملة طويلة من المجازر التي تتناسل أميبياً من بعضها بعضاً في هذه الآونة، إلى حد تبدو فيه أهوال تلك الجريمة القديمة وكأنها لا تستحق الذكر، إلا لكون مقترفها الحقيقي ارتكب وراءها جرائم بز فيها العدو الإسرائيلي، وسبقه على مضمار المنافسة الإجرامية. الأمر الذي يحملنا نحن الذين لم تخدعهم كذبة الممانعة، على القول مجدداً: إننا لا ننسى، ولن نسامح القاتل أبداً.