ثمة حقائق أساسية وأسئلة بديهية حول التطرف والإرهاب في عالم العرب، لكنها على رغم بداهتها ووضوحها لا تقترب منها بالفعل جهود الاهتمام بالظاهرة ودراستها. مئات الآلاف (قدّرتهم دراسة ألمانية بأربعمائة ألف قتل ربعهم) الذين يتطوعون للقتال مع الجماعات المسلحة، يذهبون بدافع قوي واستعداد مخلص للتضحية والموت لأجل معتقداتهم، ويعكس هؤلاء أيضاً وجود جماعات تفوق عدد المقاتلين بأضعاف مضاعفة تؤمن بالعنف والقتل لأجل الدفاع عما تعتقده وتراه فرضاً وصواباً، ففي الأردن على سبيل المثل، يقدّر عدد المقاتلين في سورية بأربعة آلاف قتل نصفهم على الأقل، وتقدّر استطلاعات الرأي أن عدد مؤيدي داعش وجبهة النصرة نصف مليون أردني، ما يعني أنه مقابل كل مقاتل واحد يوجد مائة مؤيد للجماعات المتطرفة القتالية ومؤمن بأفكارها ومعتقداتها.
لماذا يتحمّس الناس للقتل والموت، وكيف تتشكل المعتقدات والأفكار التي تدفع الناس إلى تمجيد الموت والقتل؟ وكيف تسيطر على هؤلاء الناس مشاعر القسوة والكراهية والسادية واللامبالاة تجاه الضحايا من الأبرياء والأطفال والناس المشردين من بيوتهم وأوطانهم؟ وكيف تتحمس فئة من الناس لإثارة الفزع والخوف؟ وإذا كان صحيحاً القول إنها حالة لا يفيد في مواجهتها إلا بقدر ضئيل الردّ الفكري والأدلة والبراهين العقلية، إذاً كيف يمكن فهمها والاشتباك معها؟ الأمم والجماعات والطبقات تدير صراعاتها وفق اجتهادها لتقدير حاجاتها واعتمادها على بعضها بعضاً، لذلك غلبت على الصراعات مجموعات من القوانين والقيم التي تسمح بتسويتها على نحو يترك المجال دائماً للتعاون والتنافس السلمي وتقليل الأخطار والمهددات إلى أدنى حدّ ممكن، وبطبيعة الحال فإن اليأس من الوصول إلى تسوية سلمية مقبولة يحول الصراع إلى عمليات إلغاء وإبادة للآخر بالنظر إلى أن وجود جماعة أو بقاءها لا يمكن ضمانه إلا بالقضاء على الجماعة الأخرى وإلغاء عقائدها. وتنشأ تبعاً لهذه المخاوف والمشاعر المعتقدات والأفكار وحتى القواعد والقيم الأخلاقية، لحماية الأقرباء وتضامنهم في مواجهة الغرباء، ويتشكّل الواقع تبعاً لهذه المخاوف والمعتقدات والأفكار، وعلى سبيل المثل فإن كثراً من الناس يرفضون تصديق الحقائق التاريخية لأنها تناقض الواقع الذي شكّلوه وفق تصوّر وخيال ناشئ عن الشعور بالتهديد، ما يعني بالضرورة دفاعاً مستميتاً عن المعتقدات التي تحمي الواقع المرغوب والرفض القوي للحقائق غير المرغوب فيها، وتنشأ أيضاً حول الواقع المتشكل والقضايا التاريخية مقولات المؤامرة الشريرة التي تحرك الناس لارتكاب أسوأ أعمال العنف والجرائم ضد المتهمين والمتآمرين، ويتجاوز العنف بأصحابه من القتل الشامل إلى تطهير المعتقدات والأفكار وتصفيتها!
لذلك، فإن الأمم والجماعات تمجد الحروب، فهي بالنسبة الى السلطات والجماعات والجيوش والنخب فكرة رائعة يموت لأجلها الإنسان، وفي ذلك تدمر السلطات والجماعات أعداءها، وتحرك وتثوّر أتباعها ومؤيديها، ولم تستطع بعد أو لا تريد أن تجد بديلاً للأعداء والمهددات والأخطار محركاً لبناء أسطورتها وحشد الناس وراء أهدافها.
وفي ذلك، فإن السؤال البديهي والتلقائي: كيف ندير الصراع مع الأعداء والأخطار؟ أو على نحو أكثر بداهة من الأعداء وما الأخطار والمهددات التي تحيط بنا اليوم؟ لكنه سؤال على رغم بداهته وبساطته صادم، من هم أعداء السلطات والنخب المهيمنة اليوم ومن يهددها ويشكل خطراً عليها؟ ومن هم أعداء الناس والمجتمعات؟ هل هو عدو واحد؟ أم أنهم (السلطات والمجتمعات) أعداء بعضهم بعضاً؟ ثم وباقتباس تشكل الأخطار ومسارها، هل يمكن أن نسأل أن المجتمعات والسلطات والطبقات دخلت في صراع لم يعد ممكناً تسويته إلا بإلغاء أحد الأطراف الآخرين والقضاء عليهم وعلى آثارهم وأفكارهم؟ إذا كان الأمر كذلك، فإن الإرهاب يشكل حاجة سلطوية ونخبوية الى إعادة تشكيل الواقع بطبقاته ومكوناته وموارده لمصلحة النخبة المهيمنة، ويمثل في الوقت نفسه الوسيلة الوحيدة المتبقية للمستضعفين والمهمشين واليائسين للدفاع عن وجودهم أو ما تبقى من وجودهم. تبدأ المواجهة الصادقة مع التطرف والعنف بإعادة تحديد الأعداء والأخطار وتعريفهم.