في خطابه أمام مجلس الشعب في حزيران (يونيو) الماضي، حذر الرئيس السوري بشار الأسد غريمه التركي رجب طيب أردوغان من أن «حلب ستكون المقبرة التي يدفن فيها أحلام مشروعه الإخواني». الأرجح أن بشار لم يكن يتوقع أن يتحول ذلك التهديد الى واقع بهذه السرعة، لو لم تسعفه ذيول الانقلاب التركي الفاشل في الداخل، والهجمة الروسية المتقدمة لـ «إنجاز» معركة حلب، في غفلة عن العالم المنشغل بهمومه الإرهابية، وعن الولايات المتحدة المنشغلة بمعركتها الانتخابية.
للمقاتلين على الجبهة أن يؤكدوا إذا كان انحسار الدعم التركي هو الذي أدى الى انهيار قدرتهم على الصمود في حلب، لكن الأكيد أن محاولة الانقلاب التركي دفعت أردوغان الى تحويل اهتمامه الى مشاكل بيته في الداخل، ولم تعد الأزمة السورية ومشاغلها في قمة أولوياته، كما أنه صار مضطراً الى مهادنة غريمه القديم فلاديمير بوتين، الذي سيزوره أردوغان في سان بطرسبورغ في الأسبوع الأول من الشهر المقبل، ولا شك في أن أردوغان سينال التهنئة على تخفيف حدة اهتمامه بسورية وبمصير الأسد، وكل هذا في وقت تزداد العلاقة التركية الأميركية تدهوراً، وليس ما يشير الى أن فتح الله غولن سيركب الطائرة قريباً في طريقه الى سجون أردوغان.
حتى الهم الكردي الذي كان يشغل أردوغان تراجع الآن الى المرتبة الثانية، فيما يتوسع نفوذ الفصائل الكردية في الشمال السوري على الحدود التركية، ولا تجد تركيا الوقت حالياً لمواجهته. حتى أن القيادة العسكرية الأميركية تتخوف أيضاً من أن تكون عمليات التطهير الجارية بين جنرالات الجيش التركي قد أثرت كذلك في قدرة التحالف الغربي على محاربة «داعش»، إذ إن هذه الحرب تحتاج الى العنصر البشري الاستخباري القادر، والذي يكون عمله عادة في مستوى فاعلية الدبابة والطائرة المقاتلة.
هكذا صارت حلب هي الضحية في ظل تغير المعادلات الإقليمية، وما أصعبها عندما تتغير ليجد المراهنون عليها أنهم في حاجة الى إعادة حساباتهم من جديد. مصير حلب وأهلها هو الآن في عهدة القيادة العسكرية الروسية، والأرجح أن هذا المصير سيكون شبيهاً بما حصل في حمص من تدمير للمدينة وإفراغها من أهلها، قبل أن يذهب الأسد لزيارة أطلال حي بابا عمرو، للاحتفال بـ «انتصاره».
وزير الدفاع الروسي سيرغي شويجو يشرف الآن على إلقاء خرائط حلب على أبنائها، ليرشدهم الى المعابر المفتوحة التي يقول الروس أنها ستسهل خروج المقاتلين المهزومين من حلب وربع مليون شخص ما زالوا محاصرين فيها. كل هذا فيما يعتبر هؤلاء أن هذه الممرات التي يسميها الروس «إنسانية» ليست سوى ممرات للموت، إذ إنها مفتوحة في اتجاه القصف المستمر على المدينة من الطائرات الروسية والسورية على السواء.
هذا الواقع القائم في حلب وعلى تخوم المدينة والذي لم يكن في حاجة الى قدرة كبيرة على قراءة الخرائط لتبصّره، دفع وزير الخارجية الأميركي جون كيري الى اعتبار الممرات «خدعة». ولأن الخداع الروسي للعالم يتكرر في سورية للمرة الألف، كما أن المخدوع الأميركي يسقط في الفخ للمرة الألف أيضاً، فقد حذر كيري من أن «تعاونه» مع زميله سيرغي لافروف أصبح معرضاً للخطر! وللسوري أن يسأل هنا: لماذا يجب أن نخشى على هذا التعاون؟ وماذا حقق في شأن الأزمة السورية حتى الآن، سوى انهيار كل الوعود التي أطلقها باراك اوباما للسوريين بإنقاذهم من رئيسهم، فيما كانت موسكو تحقق على الأرض ما التزمت به حيال بشار الأسد، من حرص على بقائه في السلطة، الى تحويل الأزمة السورية الى معركة دولية ضد الإرهاب، تستدعي، وفق النظرية التي تسوّقها موسكو، بقاء الأسد في السلطة وتحالف العالم معه للانتصار فيها.
وعود أميركية خائبة وتعهدات روسية قائمة. هذا ما انتهى اليه «التعاون» بين الدولتين الكبيرتين في شأن الأزمة السورية. كل هذا فيما العالم يتفرج على هذه المأساة البشرية التي كلفت الى الآن أرواح 300 ألف شخص على الأقل، وهجرات بالملايين، هجرات غيرت الخريطة الديموغرافية لدول الجوار كما للدول الغربية، ويعاني العالم تبعاتها الأمنية والاجتماعية والاقتصادية، فيما كان يمكن وقف هذه المأساة قبل خمس سنوات، لو أن مبادرات موسكو «الإنسانية» فعلت فعلها منذ ذلك الحين، ولم تكن «خدعة»، كما اكتشفها جون كيري أخيراً