برغم الجهود الكبيرة والواضحة التي تبذلها الهيئة المستقلة للانتخاب، ما يزال جزء كبير من عملية تشكيل القوائم واختيار المرشحين يواجه صعوبات شديدة؛ وما يزال تفكير الناس في الانتخابات محكوما بالتجارب السابقة. لذلك، نجد الحديث عن “مرشّح العشيرة” أو عن قرارات ترشيح فردية، من دون النظر أو التفكير في تشكيل القوائم، فضلاً عن الصعوبات الهائلة في تكوين القوائم نفسها.
يمكن أن يضاف إلى ذلك كله ثقافة المجتمع التي لم تستوعب بعد النظام الانتخابي الجديد؛ ليس لأنّ هناك قصوراً في الحملات الإعلامية لتوضيح النظام، بل على العكس ثمة جهود هائلة في توضيح القانون إعلامياً وبلغة مبسطة وعبر وسائل التواصل الاجتماعي المتنوعة، لكن لأنّ حجم الاهتمام الشعبي بمعرفة القانون وتفاصيله محدود بحسب أغلب استطلاعات الرأي، أولاً. وثانياً، لأنّ السخونة الانتخابية لم تبدأ بعد، وهي التي تدفع الناس إلى دراسة القانون ومعرفة تفاصيله. وثالثاً، لأنّ شريحة اجتماعية واسعة أصبحت متآلفة مع القانون السابق (الصوت الواحد)، الذي حكم الحياة النيابية قرابة 23 عاماً.
الطرف الوحيد الذي تمكّن من التكيّف سريعاً مع القانون الجديد (بالرغم من أنّه ليس أمراً سهلاً لحزب كبير) هو حزب جبهة العمل الإسلامي، الذي يكاد ينجز قوائمه ويعقد تحالفاته، بينما الأحزاب والقوى الأخرى ما تزال متخبطة وضعيفة، وأغلبها يقتصر على “الدائرة الانتخابية” التي تعنيه، ويلجأ إلى خيار القائمة التي تشمل “الكوتات”، كأسهل الحلول المطروحة.
بالضرورة، مثل هذه الصعوبات وعودة الهاجس من قدرات “الإخوان”، دفعت بتيار من المحافظين والحرس القديم إلى التحذير من نتائج الانتخابات المقلقة، والعزف على السيمفونية القديمة بأنّ القانون الوحيد المناسب هو قانون “الصوت الواحد”، وأخذ يحمّل المسؤولية للدكتور خالد الكلالدة، بوصفه المهندس السياسي للقانون الحالي.
في وجهة نظر هذا التيار اختزال شديد لتفاصيل مهمة وأساسية، تتمثّل، أولاً وقبل كل شيء، في أنّنا اليوم ندفع ثمناً باهظاً لقانون “الصوت الواحد” نفسه، ليس فقط على صعيد الصورة السلبية عن مجلس النواب وأدائه، بل أيضاً على صعيد اجتماعي؛ إذ ساعد ذاك القانون، عبر إضافة نظام الدوائر الفردية له لاحقاً، في صعود الهويات الفرعية وغلبة الاعتبارات الشخصية والاجتماعية الضيقة على الاعتبارات السياسية والوطنية العامة، وهي العدوى التي ضربت الجامعات والمؤسسات الحكومية، وأضرت كثيراً بالوطن.
فإذا كان خيارهم الاستمرار في “الصوت الواحد” والدوائر الفردية، فهو خيار كارثي شربنا من آثاره ونتائجه قرابة عقدين من الزمن. وإذا لم يكن كذلك، فإنّ البديل الآخر هو القائمة على مستوى المحافظة، لكن ليس بالنظام النسبي بل العددي، ومثل هذه القائمة تعني، أولاً، تضخيماً كبيراً في قوة الإسلاميين، وتعزيز هذا الهاجس لدى دوائر القرار. وثانياً، في هذا البديل ظلم من زاوية احتساب الأصوات، ومستوى التمثيل، فالنظام النسبي يضمن تمثيلا على نطاق واسع للأصوات وعادل، بينما في العددي تذهب أصوات الخاسرين بلا قيمة، حتى لو تحدثنا عن مئات الآلاف من الأصوات.
تبقى المشكلة الحقيقية في أمرين:
الأول، أنّنا أمام نظام انتخابي نسبي جديد وغير مألوف، والناس لا تعرف كيف تتعامل معه بعد، أكثر تعقيداً في حسابات الانتخابات من الأنظمة السابقة. وهي مشكلة يمكن الخروج منها مع الوقت والتدريب والألفة. لكنّ النجاح في التحول من النظام الانتخابي العددي إلى النسبي سيكون جيداً على صعيد الثقافة الانتخابية والسياسية.
الثاني، أنّه لا الحالة الاجتماعية اليوم، ولا الحالة الحزبية، مؤهلتان للنظام النسبي وللقفزة الحالية فيه، وهذا صحيح تماماً، لكن ما البديل؟ إذا كانت العودة إلى “الصوت الواحد”، فمشكلة، والتحسينات الطفيفة (صوتان) على ذلك لن تحل المشكلة.
دعونا، إذن، نتفاءل باجتياز تلك المشكلات مع قانون جديد، لا كما يتوقع كثيرون بأنّها الانتخابات الوحيدة التي ستجرى وفق هذه الصيغة!