نادرا ما اجتمعت البلاهة والجنون، كما اجتمعا اليوم في زمننا. يكفي أن نقرأ عناوين الأحداث الكبرى التي احتلت الصحف وشاشات التلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي، في الأسبوع المنصرم، لنجد أنفسنا أمام لحظة نادرة في تاريخ البشر، تتحول فيها البلاهة إلى جريمة، ولا يجد التوحش تبريراته إلا في البلاهة.
الرئيس التركي رجب طيب اردوغان يتدروش ويؤذن الفجر بصوته «الرخيم»، بينما تتوإلى فصول صيد الساحرات، وهستيريا اعتقال الناس وطردهم من وظائفهم، في انقلاب «شرعي» على الانقلاب العسكري التركي الفاشل.
الزوجة الثالثة للمرشح الجمهوري للرئاسة الأمريكية دونالد ترامب، عارضة الأزياء السابقة السلوفينـــية ميلينا كنافز ترامب، تسرق مقاطع من خطاب قديم يعود إلى العام 2008 للسيدة الأمريكية الأولى ميشال أوباما، وتدبلجه في خطبتها العصماء أمام مؤتمر الحزب الجمهــــوري، الذي فاحت منه روائح العنصرية والدعوات إلى القتل. لم يجد زوجها في هذه الفضيحة سوى منبر للشهرة، لأن المليونير الأمريكي الطامح إلى الرئاسة يؤمن أن الكلام لا معنى له، فهو مجرد أداة للتعمية والحجب، لذا لا بأس من سرقة كلام امرأة سوداء لا يكنّ لها اليمين الأمريكي سوى الكراهية، بعدما قامت الحسناء السلوفينية بتبييضه.
جماعة نور الدين زنكي تقطع رأس فتى يدعى عبدالله عيسى أمام كاميرا الفيديو، بتهمة تعامله مع النظام. فتى يبدو من صوره مصابا ونحيلا يعدم من أجل أن يسجل هذا الفصيل الإسلامي بطولته عبر الالتحاق بركب الذباحين والقتلة. لم يجتمع في تاريخنا هولاكو وتيمورلنك، لكن هذا الزمن الأرعن جمعهما، فصار من الصعب علينا تصنيف من يتهولك ومن يتتيمر من أسياد الموت السوري والعربي. هل بشار الأسد هو هولاكو أم أن هذا اللقب يجب أن يحفظ لأبي بكر البغدادي، على أن ينفرد الرئيس السوري الصغير بلقب تيمورلنك؟ أم أن التاريخ تحول في عرف هؤلاء القتلة البلهاء إلى مكان للتنافس على من يتفوق في الإجرام؟
شاب إيراني ألماني مخبول روّع ميونيخ، وجعلنا ننضم إلى اللاجئين في المانيا وهم يتمنون أن لا يكون القاتل عربيا، كي لا تكون هذه الجريمة المروعة جرعة إضافية لليمين الفاشي في أوروبا وأمريكا، من أجل إعلاء الصوت العنصري، واضطهاد الأقليات العربية والمسلمة.
ولم يكتمل أسبوع البلاهة والعنصرية من دون إضافة نكهة إسرائيلية خاصة صنعها الخواجة افيغدور ليبرمان، وزير الدفاع الإسرائيلي والسيدة ميري ريغيف وزيرة الثقافة والرياضة. المستوطن المولدافي ليبرمان استفزه أن تخصص إذاعة الجيش الإسرائيلي في برنامجها: «الجامعة المُذاعة» وقتا لتحليل قصيدة درويش: «سجل أنا عربي» فقارن بين شعر درويش وكتاب «كفاحي» لهتلر، مدللا على عمقه الفكري وتبحره في الفلسفة والأدب! أما الليكودية ريغيف التي تكره الثقافة، فقالت إنها خافت عندما سمعت مقاطع من قصيدة «سجل أنا عربي»!
ما يجمع هؤلاء القتلة هو السعادة والمتعة. العنصريون والفاشيون يعيشون في سعادة لا يؤرقها شيء. قناعاتهم ثابتة، وطاقاتهم على القمع والقتل بلا حدود، لأن بلاهتهم تحميهم من الأفكار والاعتبارات الأخلاقية والضميرية التي تؤرق البشر في العادة. إنهم سعداء لأنهم قرروا أن يكونوا مجرد أدوات لغريزة الموت، وبشاعات التسلط. وهم متدينون أو يحولون عنصريتهم إلى دين جديد، والتدين يحميهم من المسؤولية، ويجعلهم يبدون كالأبرياء.
لا شيء يوازي توحش مدعي البراءة.
الرئيس التركي بريء لأنه يدافع عن نفسه وخائف، وهذا يسمح له بأن يرتكب ما كان مقدرا للانقلابيين ارتكابه، لذا انتصر الانقلاب في تركيا حتى ولو فشل، إلا إذا استطاعت القوى المدنية والديموقراطية امتصاص موجة العنف والثأر ووضع حد لها.
أما السيدة ترامب فهي نموذج لذاك المزيج الغريب من السذاجة والحمق. زوجها يمتلك كل الحلول لأنه يريد ببراءة متوحشة استعادة أمريكا البيضاء، وسحق أمريكا الملونة والمسلمة والهسبانية.
وجماعة زنكي «أبرياء» لأنهم ينتقمون من قتلة الشعب السوري، ومن أجل الانتقام من القاتل قاموا بالبرهنة على أنهم قادرون مثله على قتل السوريين. وعندما حشروا زوروا بطاقة هوية للقتيل تثبت انه ليس في الثانية عشرة من العمر بل في التاسعة عشرة لكنه يحمل وجها طفوليا لأنه يعاني من صعوبات في النمو. هكذا يخترعون تبريرا لحمل رأس الفتى الذبيح أمام الكاميرا وسط وجوه القتلة الطافحة بالسعادة، وصرخات الله أكبر!
الإيراني الالماني ديفيد علي سنبولي لا تزال المعلومات عنه شحيحة، لكنه يعكس مناخ الجنون الذي يجتاح العالم، والذي وصل إلى ذروته الوحشية في مأساة نيس.
أما سعادة البلهاء في إسرائيل فلا توجد كلمات ملائمة لوصفها. الفاشيون الإسرائيليون لا يُصفّون اليوم حساباتهم مع الفلسطينيين فقط، بل يصفّون حساباتهم مع اليهود الليبراليين، الذين صرفوا أعمارهم وجهودهم من أجل تغطية جريمة النكبة عبر إنكارها، وركّبوا صوت الحمل على حنجرة الذئب الإسرائيلي، وصاغوا لغة سلام مراوغة كي يحموا أنفسهم من أخطار اللغة الدينية – القومية التي تهدد مبرر وجودهم، و»شرعية» دولتهم.
اللعبة انتهت اليوم في إسرائيل، فعندما يصير الخواجة المولدافي خبيرا في الشعر، قل على الثقافة السلام، وعندما تصير قصيدة مباشرة لشاعر فلسطيني شاب يتمسك فيها بهويته معادلا لكتاب السفّاح الألماني، فإن اليمين الفاشي الإسرائيلي لا ينفي وجود الفلسطينيين وحدهم، بل يعتدي أيضاً على الذاكرة اليهودية ويدخل في لعبة ناكري المحرقة من باب تسخيفها.
كلام ليبرمان وريغيف لا يثير سوى الشفقة، لكنني لا أشفق عليهما، فهؤلاء الفاشيون البلهاء يشكلون خطرا على القيم الإنسانية، ومن الواجب مقاومتهم والتصدي لهم والحاق الهزيمة بهم. لكنني أرثي لحال الممانعين العرب الذين رجموا درويش قبيل وفاته واتهموه بالخيانة والتطبيع. ماذا سيقولون اليوم وقد وجدوا أنفسهم في خندق واحد مع ليبرمان وأشباهه؟
شرط مقاومة البلاهة والجريمة هو عدم التسامح مع أي من افتراضاتها، لا ادعاء الخوف يفيد ولا الدفاع عن النفس يجدي، ولا الانتقام يبرر. تبدأ مواجهة جرائم البلاهة والتوحش بالتمسك بالقيم الإنسانية، قيم المساواة والحرية والعدالة، وبعد ذلك تأتي السياسة.