خضعت في السنوات الأخيرة، أسوة بمواطني الشرق الأوسط الرهيب، لدورة تدريبية على المشاهد الوحشية. أقنعت نفسي أن من الضروري مشاهدة فيديوات أتلقاها على هاتفي أو جهاز الكومبيوتر عن عمليات إعدام رهائن. ومع الوقت اعتدت على متابعة هذه الصور المقززة بما فيها إنجازات «داعش» في حز الرؤوس. لا أقول أنني صرت بلا شعور إنساني لكن الحقيقة هو أنني صرت أعتبر ما أراه جزءاً من المشهد في بلداننا المنكوبة.
آخر متابعاتي في هذا السياق كان مشهد الفتى الفلسطيني الذي قيل أنه كان يقاتل إلى جانب النظام السوري ووقع في أيدي «حركة نور الدين زنكي» المعارضة. وكان الذبح عقاب الفتى. وتفاعل الحادث بسرعة ذلك أن الحركة تدرج أصلاً في باب المعارضة المعتدلة وهي لم ترتكب بالتأكيد ممارسات شبيهة بما ارتكبه «داعش» أو «جبهة النصرة».
لا أكتب هنا عن الحركة المعنية أو تلوينات المعارضة السورية. لفتني أن الحركة شكلت لجنة تحقيق وشددت على «أن هذا الانتهاك لا يمثل الحالة العامة للحركة وإنما خطأ فردياً».
قدمت المذبحة السورية المفتوحة لوحة لم يعرف العالم لها مثيلاً منذ الحرب العالمية الثانية. تقتحم قرية فيلتهم المهاجمون المدنيين العزل ثم يقال إن ما جرى هو مجموعة ممارسات فردية. هذا يعني أن الحرب مجموعة ممارسات فردية علينا تقبلها. فالطيار الذي يلقي البرميل المتفجر على الحي المستهدف هو فرد في النهاية وبالتالي فإن الحادث فردي.
تقضي الأمانة الاعتراف بأنني مصاب بعقدة «الحادث الفردي». ومرد العقدة أنني كلما سألت مسؤولاً حكومياً أو حزبياً عن جريمة شائنة يسارع إلى القول إنها حادث فردي ولا يمكن البناء عليها للوصول إلى استنتاجات تتعلق بالجماعات.
حادث فردي. قبل سنوات اتصلت من لندن بمسؤول المشرحة في بغداد. وكان لطيفاً على رغم قسوة وظيفته. قال لي إن المشرحة تستقبل يومياً عشرات الجثث وبعضها يصل ناقصاً وهي حصيلة انفجارات أو اغتيالات أو إعدامات كيفية رداً على انفجارات. وإن بعض الجثث تبقى مجهولة ولا يسأل عنها أحد.
بعد فترة زرت بغداد وسألت رئيسي الجمهورية والحكومة عن قصة هذه الجثث والفتنة السنية – الشيعية. وجاء الجواب أنه لا يمكن الحديث عن حرب أهلية في العراق وأن المسألة مجموعة حوادث فردية. لست ساذجاً لأصدق كل ما أسمع. لكن على الصحافي العربي أن يحترم في النهاية عجز المسؤول العربي في البلدان المتفجرة عن تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية.
بعد استعادة الفلوجة من تنظيم «داعش» الإرهابي المتوحش سمعنا ما كنا سمعناه في محافظة ديالى عن أن الارتكابات ضد المدنيين كانت مجرد حوادث فردية. ليس بسيطاً أن تحدث عمليات تغيير ديموغرافي وتطهير مذهبي ثم تغطى بالقول إنها حادث فردي. إذا قبلنا هذا المنطق يمكن القول إذاً إن غزو الكويت كان حادثاً فردياً لأن فرداً اتخذ القرار وحده وكذلك الأمر بالنسبة إلى مجزرة حلبجا.
صعد الألماني إلى القطار في رحلة عادية. لكن مهاجراً مسلحاً بفأس انهال على عدد من الركاب. المرتكب فرد في النهاية حتى ولو اعتبره «داعش» من «جند الخلافة». دخلنا الآن مرحلة جديدة. مرحلة «الذئب المنفرد» الذي يمكن أن يرتكب مذبحة مروعة بمبادرة فردية واستناداً إلى أنهار الكراهية المتدفقة عبر الشاشات وأزقة الإنترنت. لا تزال الحكومة الفرنسية تحاول حسم ما إذا كان مرتكب مجزرة نيس ذئباً متوحداً أم ذئباً موصولاً بغرفة عمليات.
هذا القتل الذي لا يتوقف ليس حادثاً فردياً. إنه شهادة على استيقاظ آبار الكراهية في دواخلنا وثقافتنا ومجتمعاتنا. إنه يفضح ما علمناه لأجيال متلاحقة عن أن الآخر المختلف هو عدو يجب استئصاله من بلداننا ومن الكرة الأرضية أيضاً. نبث أمواج الكراهية ورفض الآخر وحين يتحرك ذئب نسارع إلى القول إنه حادث فردي.
هل يحق لذئب أن يقتل ألمانياً لمجرد أنه لا يشبهه؟ وهل يحق لذئب أن يدهس السياح في نيس لأنهم يشربون من ينابيع أخرى؟ واضح أن الذئاب تتكاثر. وأننا نطلق سلسلة لا تنتهي من الحروب الأهلية في بلداننا وعلى مستوى القرية الكونية. ليست حوادث فردية. إننا ننزلق إلى صدام مروع مع العالم والعصر والنتيجة كهوف وخراب وذئاب.