ماذا حدث بين علمنا بمحاولة الانقلاب وإعلان فشله؟ دخل الصديق الدكتور أحمد طعمه إلى حيث نحن في إسطنبول، وقال: يبدو أن هناك محاولة انقلاب. سأله أحدنا بلهفة: أين، في سورية؟ وقبل أن يضيف: هذا ما كان يجب أن يحدث منذ فترة طويلة، ردّ أبو صالح باقتضاب: لا باﷲ، بل هنا، في تركيا. كان القلق بادياً عليه، فقال أحد الحضور مطمئناً: لا تقلقوا، من ينال أكثر من نصف أصوات شعبه في انتخابات حرّة، يشهد الجميع لها بالنزاهة، لن ينجح انقلاب عسكري ضده، ولن يلغي ما حققه لشعبه.
كالعادة في حالات البلبلة والغموض، فتح الحاضرون هواتفهم النقالة، وشرعوا يستمعون إلى الأخبار التي خالطتها إشاعاتٌ كثيرة، بينما كان رئيس الوزراء التركي، بنعلي يلدريم، يعلن أن هناك تحرّكاً عسكرياً يحدث، من دون أمر من القيادة العامة للجيش، وكانت “وكالات أنباء” مجهولة المصدر تعلن اعتقال رجب طيب أردوغان، أو تعلمنا أنه في طريقه إلى ألمانيا، طلباً للجوء السياسي، أو تروّج مقتله تارةً في إنطاكية وأخرى في إسطنبول. في هذه الأثناء، كان الرجل يوجه حديثاً إلى الشعب عن طريق السكايب، يطلب منه النزول إلى الشوارع، لحماية الديمقراطية وإفشال الانقلاب. قبل النداء، كانت البلدة سيدة الموقف، وكان برلمانيون ومسؤولون أتراك كبار يقرّون بصعوبة الموقف، لكن ظهور أردوغان السكايبي بدّل كل شيء، فبعد أن كانت شوارع إسطنبول قد خلت بصورةٍ شبه تامة من الحركة، امتلأت خلال نصف ساعة بطوابير طويلة جداً من سياراتٍ اتجه أصحابها إلى ساحات إسطنبول التي احتلها الجيش، وخصوصاً منها ساحة تقسيم، وإلى مطار المدينة، وهي تشعل أضواءها، وتطلق العنان لأبواقها، وترفع جميعها تقريبا الأعلام التركية. عندئذٍ، بدا وكأن الشعب يزحف، بقضه وقضيضه، ومن كل صوبٍ، إلى حيث يسد الطريق على الانقلاب ويفشله. ما أن نزل الشعب إلى الشوارع، حتى أيقنّا، كغيرنا من مراقبي الحدث، أن الشعب يرى في القائمين بالانقلاب مغامرين يتلاعبون بمصير وطنهم، وشعبهم، ويهدّدون ما أنجزه مواطنوهم من عمران، في لحظةٍ تاريخيةٍ سقط فيها معظم العالم الثالث في أوضاعٍ صار يشتهي فيها أن يُستعمر من جديد، عل مستعمريه يتكفلون بإطعام شعوبه، وإسكانها وتعليمها وعلاجها المنحدرة إلى هلاك أكيد، بينما ارتقت تركيا، في هذه الأثناء، إلى مصاف الدول المتطورة والمجتمعات المتقدمة، وحققت ما كان الخيال عاجزاً عن تصوّره، في مدّة لا تتجاوز عقداً ونصف عقد، وأرست قيماً ديمقراطية بين رد الشعب على الانقلاب العسكري، كما ترسّخت في وعيه وسلوكه، تقارن، بكل
“كان من المحتم أن يرتطم الانقلابيون بالشعب، وأن تنهار حركتهم، وتفشل” جدارةٍ، بمثيلتها القائمة في أكثر بلدان الغرب تقدماً وتطوراً، بشهادة انتخاباتها الحرّة، وصحافتها المتنوعة والنقدية، وأحزابها المعارضة، التي تعمل بحرية، وبكامل طاقتها ضد حزب العدالة والتنمية الحاكم ورئيسه أردوغان، من دون أن تتعرّض لأي قمع أو تفرض عليها أية قيود، فلا عجب أن غدت التجربة الوليدة محل تقدير واحترام دولي وإقليمي وعربي، وانتشر اقتناع واسع، لدى كثيرين من معاصرينا العرب، بأن الطريقة التي وقفت حكومتها الإسلامية، بواسطتها بين العلمانية والقومية والديمقراطية والتنمية المستدامة والنزعة الاستقلالية، تستحق الاحتذاء والتطبيق في عالمنا العربي الذي فشلت ثورته، نتيجة عجزه عن إيجاد القدر المطلوب والفاعل من التوافق بين هذه المفردات التكوينية لدولنا ومجتمعاتنا. لذلك، وبينما وحّدت وحدّثت بانسجامها الأمة في تركيا، وأمدتها بطاقاتٍ روحيةٍ ومعنويةٍ خلاقة، أسهمت تناقضاتها في مزيدٍ من تمزّق أمتنا ومجتمعاتنا.
استهدف الانقلابيون هذا الجديد، فكان من المحتم أن يرتطموا بالشعب، وأن تنهار حركتهم، وتفشل في توطيد أقدامها في أي مكان أو موقع، ولعل موقف الأحزاب المعارضة الذي تطابق مع موقف الحزب الحاكم في الدفاع عن الشرعية الديمقراطية يمدّنا بالدليل المطلوب لإثبات ما سبق قوله، وهو أن الانقلاب كان من ماضٍ لم يعد هناك من سبيل للعودة إليه، لأن تركيا تركته وراءها وتخطته، وخرجت من عالمه، وسدّت سبل عودته إلى راهنها. هذا ما جعل الانقلاب يبدو كضربة عصا على ماء، وجعل تركيا المدنية مجتمعةً تواجه، موحّدة، بقايا تيار عسكري متخلف العقلية وانقلابياً، كان من المُحال أن ينتصر، ومن الطبيعي أن تهزمه، وتشحذ من الآن فصاعداً أسلحتها في مواجهته، ومنها ما قاله تعليقٌ رائعٌ ومصيب، رأى أن موازنة التعليم هي من هزم الانقلاب.
فشل الانقلاب لأن مجتمع تركيا رفضه، ولأن أردوغان اتخذ قراراً تاريخياً باعتماد الشعب قوة أمن بقدرتها على الدفاع عن مصالحها وحريتها، ثم نزل بنفسه إلى الشارع، في لحظة شديدة الحساسية والخطورة. وأخيراً، لأن الجيش رفض الانقلاب، بعد أن أدركت قيادته ماهية المرحلة التاريخية المتقدمة التي بلغتها تركيا، وتجاوزت شعورها بأن التطورات لم تعد من صنعها، وأن شراكتها في صنع مجد وطنها تكفيها، كقوةٍ مهمتها حمايته من أعدائه، وليس التحوّل إلى عدوٍّ داخلي له.