يتابع الرأي العام حول العالم بذهول حملة الاعتقالات والتوقيفات بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، والتي طالت حتى الآن حوالي عشرة آلاف شخص من عسكريين ورجال أمن وقضاة وموظفين عموميين، إلى جانب كف يد ما يزيد على ثلاثين ألف موظف حكومي عن العمل. ويخشى كثيرون من تغول نظام أردوغان على خصومه السياسيين، واستغلال محاولة الانقلاب لتصفيتهم جميعا.
قد تبدو حملة الاعتقالات والتسريحات واسعة ومبالغا فيها بنظر المراقبين في الخارج. لكنها في التقاليد التركية ليست كذلك، لا بل إنها متواضعة جدا مقارنة مع حملة الاعتقالات التي تلت انقلاب 1980 الناجح.
في تلك السنة، قاد الجنرال كنعان إيفرين انقلابا في تركيا، وسيطر على الحكم في غضون ساعات، وأقال الحكومة الائتلافية، وحل البرلمان، وفرض الأحكام العرفية، وألغى دستور البلاد. وقام الانقلابيون باعتقال جميع قادة الأحزاب السياسية، فيما اضطر أكثر من 30 ألف تركي إلى الفرار من بلادهم.
وبعد تغييرات سياسية ودستورية واسعة في البلاد، استفتى الشعب على دستور جديد، وانتخب إيفرين رئيسا للجمهورية.
زاد عدد المعتقلين بعد الانقلاب عن 650 ألف شخص، خضع منهم للمحاكمة 230 ألفا، ونفذ حكم الإعدام بالمئات، ومات كثيرون تحت التعذيب، واعتبر الآلاف في عداد المفقودين.
كانت تركيا في حالة مزرية عندما نفذ الجيش الانقلاب في ذلك الوقت. اقتصاد البلاد مشلول، والمليشيات المسلحة تتحكم بالأتراك. اغتيالات وتصفيات على نطاق واسع، تورطت فيها جماعات قومية ويسارية متطرفة.
وفي سنوات لاحقة، ظهرت دراسات موثقة تؤكد أن قيادة الجيش التركي في ذلك الوقت، ساهمت في دفع البلاد إلى الهاوية للاستيلاء على السلطة من جديد، وبدعم مباشر من المخابرات الأميركية. فعندما وقع الانقلاب، كان الرئيس الأميركي جيمي كارتر يحضر حفلا موسيقيا، وتلقى اتصالا من أحد كبار الضباط في الاستخبارات الأميركية يخاطبه قائلا: “لقد فعلها غلماننا”.
ظروف تركيا عشية المحاولة الانقلابية الأخيرة لا تشبه أبدا حالة تركيا المزرية في الثمانينيات، خاصة من الناحية الاقتصادية؛ حيث الازدهار الاقتصادي واستقرار العملة التركية.
ربما تكون هناك ظروف مشابهة من الناحية السياسية؛ فنظام أردوغان في صراع وجود مع حليفه السابق فتح الله غولن الذي تحوز جماعته على نفوذ واسع في تركيا، ويزيد أتباعها على خمسة ملايين شخص. وهو أيضا في مواجهة مفتوحة مع الأكراد، والجماعات الإسلامية المتشددة في سورية التي انقلبت عليه بعد تحالف صريح بين الطرفين، مكّن تلك الجماعات من حرية التنقل عبر الحدود التركية السورية، والتزود بالسلاح والمقاتلين. وتركيا خرجت للتو من أزمة عويصة مع روسيا، وقبلها مع إسرائيل، وعلاقات متوترة مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، رغم انتساب تركيا الأصيل لحلف “الناتو”.
إن ما يفعله نظام أردوغان بحق المتورطين بالانقلاب، أو المحسوبين على جماعة فتح الله غولن، كان ليحدث مثله وأكثر بكثير من طرف قادة الانقلاب، لو كتب لتحركهم النجاح.
تركيا لها خصوصيتها. وفي أحيان، يعيد التاريخ نفسه في هذا البلد. لقد صدم كثيرون عندما سمعوا قول أردوغان معلقا على دعوات إعادة العمل بعقوبة الإعدام: “الشعب يقول لماذا نتحفظ عليهم -يقصد الانقلابيين- ونطعمهم بالسجن لأعوام قادمة، لا بد من نهاية سريعة”.
هذا القول ليس جديدا في تركيا، فقد نطق إيفرين بالعبارة نفسها تقريبا في كلمة ألقاها العام 1984، في إشارة لمن أعدموا بعد الانقلاب: “هل كان علينا أن نطعمهم في السجن لسنوات، بدلا من أن نشنقهم؟”.
الانقلابات العسكرية لعبة قاتلة؛ إن فزت فيها تسحق خصومك، وإن خسرت تلقى حتفك.