نجح الفرنسي التونسي محمد لحويج بو هلال في تحويل احتفالات نيس إلى كابوس. وسواء أكان الرجل يعاني مرضاً نفسياً، مثلما قال والده، أو كان «مجاهداً» في صفوف دولة البغدادي، فإنه حقق هدفه عبر تحويل موت الأبرياء إلى جزء من مشهدية الموت الداعشية، التي نجح فقهاء إدارة التوحش في ترسيخها.
تأتي صورة بو هلال من أجل أن تمحو صورة محمد بوعزيزي. كان انتحار البوعزيزي احتراقاً الشرارة التي أطلقت الثورة التونسية وافتتحت الثورات الشعبية العربية. أما انتحار بو هلال فجاء ليطفئ شرارة الأمل ويحولها جريمة. لو لم يمت بو عزيزي عام 2011 لكان اليوم في الثانية والثلاثين من العمر، فهو يكبر بو هلال بسنة واحدة، أي أن الشابين من جيل واحد. بو عزيزي في يأسه أطلق احتمال عودة العرب إلى أنفسهم كشعوب تستحق الكرامة والحياة والحرية، أما بو هلال فحوّل اليأس إلى انتقام من الذات والآخرين.
الثورات العربية كانت محاولة لاعادة العالم العربي إلى حلبة التاريخ، والتيارات الأصولية ليست سوى محاولة لاخراج العرب من التاريخ عبر الانتقام من تاريخهم، وتلويث صورتهم بالدم والجنون. البو عزيزي كان صوتنا ضد الديكتاتورية والاستبداد، وبو هلال صار صوت الديكتاتورية وسوطها، من أجل تسويغ إذلال العرب، عبر إخراحهم من زمنهم وإثبات أن الحرية لا تليق بهم، وأن عليهم ان يبقوا تحت أحذية العسكر وأنظمة المافيا إلى الأبد.
وخلال اربعٍ وعشرين ساعة انتقل بو هلال من نيس إلى اسطنبول. مصادفة التزامن بين الحدثين الفرنسي والتركي مليئة بالدلالات. بينما كنا نمسح عار الجريمة الفرنسية عن عيوننا، بدا وكأن العار امتد فجأة إلى تركيا عبر انقلاب عسكري شاركت فيه قوات من سلاحي البر والطيران، هدفه إسقاط حكومة منتخبة، بحجة رفض الميول الاستبدادية لدى الرئيس التركي. ولم يكن احتفاء الديكتاتور المصري بالحدث سوى الوجه الآخر لنشوة المستبد السوري الصغير بالانقلاب. فالانقلاب حاول أن يثبت أن علينا أن نختار بين كوليرا العسكر وطاعون داعش، وأن الحرية لا تليق بنا، وأن خيارنا الوحيد هو الخروج من التاريخ والدخول في جريمة تدمير ذاتي متمادية لا أفق لها سوى الحضيض.
في نيس المجرحة بالخوف والدم، حمل بو هلال الموت للناس، وشرعن في عمله السادي التيارات الفاشية اليمينية الصاعدة في غرب يفقد قيمه التي تلوثت بجريمة غزو العراق. وفي اسطنبول حاول جنرالات الانقلاب تشويه ما تبقى من صورة المنطقة غبر انقلاب أحمق، كان سيضع تركيا على مفترق الحروب والتفكك، ويقتل احتمالات الديمقراطية التي تواجه الكثير من الصعوبات.
حدثان متزامنان في الدلالات، ويقدمان لنا وجهين لصورة واحدة، فالاستبداد لا يحيا إلا بالخوف، والأصولية المتوحشة هي ابنة الخوف.
ومثلما تعاملت الولايات المتحدة واوروبا مع الاستبداد والتوحش بصمت مريب أحياناً وبجعجعة لا معنى لها في الكثير من الأحيان، تعامل العالم بصمت مع الحدث التركي، ولم يستفق لشجب الانقلاب الا بعد فشله المدوي في شوارع اسطنبول وانقرة.
هذا الصمت المريب يشير إلى الحقيقة التي عميت عنها الأبصار، وهي أن الغرب لا يتفرج على مآسينا فقط بل هو شريك فيها. ورغم الهلع الغربي من جريمة نيس فإن حساب الربح والخسارة لا يزال يميل بشكل واضح لمصلحة الدول الكولونيالية. عالم عربي مدمر وتركيا محطمة وإيران تتلهى بحروب الملالي الطائفية هي الجائزة الكبرى للمشروع الغربي الحقيقي الوحيد في المنطقة الذي يدعى دولة إسرائيل.
غير أن الشعب الذي لم يؤخذ في حساب معادلة الاستبداد والتوحش، صنع المفاجأة وكان هو المفجأة. لقد تصرفت الأحزاب السياسية التركية بتياراتها المختلفة بنضج ديموقراطي، فأدانت الانقلاب ودعت إلى اسقاطه. لكن السقوط الحقيقي للانقلاب تم في الشارع. في الشارع أسقط الناس نظام الانقلابيين الوليد، ووقفوا في وجه الدبابات واجبروها على الفرار. وهذا له أكثر من دلالة، لأنه في العمق ليس تفويضاً لأردوغان، بل هو اعلان ان السلطة تنبع من الناس. وسيكون محزناً ان يقرأ الرئيس التركي الهبة الشعبية التي دحرت الانقلاب بأنها تفويض شخصي له كي يتسلطن، لأنه سيمهد بذلك لقتل الديمقراطية بيديه.
العلاقة بين نيس واسطنبول ليست مصادفة، حتى ولو كان تزامنهما مجرد مصادفة. فهذان الحدثان أو ما يشبههما يتزامنان من زمان. اتخذا شكلهما الأول في سوريا حين استباح النظام البلاد وكان جوابه على الثورة السلمية هو الرصاص، ثم اتخذا شكلهما عبر الافراج عن قادة الأصوليين في السجون، حتى وصلت الأمور إلى ذروتها عند تأسيس دولة البغدادي، التي ورثت دولة مصعب الزرقاوي من زمن الاحتلال الامريكي للعراق، وحققا نجاحهما الأكبر في الانقلاب العسكري المصري.
الإرهاب الأصولي في شكله الوحشي لم يمتد إلى الغرب، بل بدأ هناك في الحادي عشر من أيلول/سبتمبر ثم جاء الى العراق مع/ وكرد فعل على الغزو الامريكي. وهو اثبت أنه تدمير ذاتي وليس تدميراً للآخر. كما ان اللعب مع الأصوليين التكفيريين وممالأة المستبدين هو الذي سمح بعودة الارهاب الوحشي إلى الغرب.
معادلة جهنمية لا تنكسر من داخلها، لأنها تغذي الموت بالموت، ولا إمكانية لكسرها إلا حين ينجح الناس في ضرب معادلة الاستبداد.
هذه هي الأهمية الكبرى للحدث التركي الذي لا تزال تفاصيله غامضة، فلقد انقذ الناس تركيا ليس من احتمالات الاستبداد فقط بل من خطر التفكك. هذا الدرس البليغ جاء من تونس أولاً، وعلى حزب العدالة والتنمية أن يقرأ معاني هذا الدرس جيداً، ويكف عن سياسات القمع الاردوغانية، وينفتح على المشاركة الديمقراطية، ويتوقف عن الحماقة القومية المتطرفة في معالجة الأزمة الكردية. وينهي اللعبة السوداء في التعامل مع داعش وأخواتها.
لا يحمي الحرية والديمقراطية سوى الناس. البوابة الإسرائيلية ليست سوى وهم، وكذلك البوابة الروسية المدججة بشهوة كولونيالية متجددة.
الشعب في تركيا قال كلمته، وكانت كلمته اعلاناً بأن معادلة الأواني المستطرقة بين الاستبداد والأصولية يمكن كسرها.