طريقة تنفيذ عملية نيس الإرهابية في فرنسا، عبر دهس المواطنين بشاحنة كبيرة، ما أدى إلى عدد كبير من القتلى والجرحى وآثار كارثية، هي بمثابة “نقطة تحول” خطرة في نمط وأساليب عمل تنظيم “داعش”، أو الأفراد المؤيدين له في مختلف بقاع العالم.
تبقى الدلالة الأكثر أهمية مرتبطة بالمفارقة الرئيسة في تلك العملية، وتتمثل في خلفية المهاجم نفسه؛ محمد بوهلال (الذي قتلته الشرطة الفرنسية خلال العملية). فهو، وفقاً لسجله الشخصي، لا توجد لديه أي أسبقيات في عالم السلفية الجهادية والتطرف؛ لا في سجلات الفرنسيين، بالرغم من اعتقال الآلاف عشية بطولة أمم أوروبا، ولا في السجلات التونسية، حيث وُلد وعاش الفترات الأولى من حياته في المساكن بالقرب من سوسة.
على النقيض من ذلك؛ هو صاحب سجل أمني مغاير تماماً، مرتبط بالمخدرات والجنح، وبعدم استقرار عائلي أدى إلى انفصاله عن زوجته وأولاده. لكن حتى هذه “الخلفية الجنحية أو الجنائية” ليست غريبة عن عمليات التحول والتجنيد التي تتم في الحركات السلفية الجهادية، ولدى “داعش” مؤخراً. فمنفّذ عملية الطوارئ قرب الحرم المدني بالسعودية كانت لديه سابقة مخدرات؛ ومن قاموا بتفجيرات باريس في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام الماضي لدى بعضهم خلفية شبيهة، وهكذا، حتى إن علي صوفان صاحب كتاب “الرايات السود” (والمؤلف أحد أبرز محققي الـ”إف. بي. آي” سابقاً في التحقيق مع “القاعدة”)، يذكر قصص علاقة أفراد من خلية 11 أيلول (سبتمبر) 2001 بخلفيات شبيهة، مثل النساء والرقص والمخدرات والشرب.
إذن؛ ما الجديد؟
الجديد هو السرعة الخاطفة التي تمّ بها تجنيد، أو بعبارة أدق تحوّل محمد بوهلال إلى التطرف، ثم إلى القيام بعملية إرهابية. وهو الأمر الذي وصفه بدقة وزير الداخلية الفرنسي برنار كازانوف، بأنّ بوهلال “اعتنق الفكر المتطرف بسرعة كبيرة على ما يبدو”! إلى درجة أنّ أحدا ممن حوله لم يلاحظ قبل أسابيع قليلة أي تغييرات في سلوكه، ووصفه أقارب له بأنّه كان يشرب الكحول ويأكل لحم الخنزير، فيما أشارت أسرته إلى أنّه كان يعاني من انهيار عصبي وراجع طبيبا نفسيا سابقاً.
هذه المؤشرات تدلّ على أنّنا أمام حالة مختلفة عن الآخرين بالسرعة الشديدة في التطرف، والقيام بعملية انتحارية. وربما هذا يولّد السؤال المشروع والمنطقي لدى القارئ بشأن المعايير التي يعتمدها تنظيم “داعش” عندما يتبنى عملية مثل هذه لرجل صاحب أسبقيات في المخدرات، وليس له تاريخ مع السلفية الجهادية، وهي حالة قريبة نوعاً ما -في بعض تفاصيلها- من حالة متين عمر، الذي قام بعملية أورلاندو بالولايات المتحدة، قبل مدة قصيرة!
الجواب يكمن في الفرق الجوهري بين “القاعدة” و”داعش” في عمليات التجنيد والارتقاء والانتقاء داخل التنظيم. فالقاعدة، هو تنظيم نخبوي بطبيعته، يتبنى الأهداف بعناية، ويختار الأشخاص وفقاً لمعايير دينية وسلوكية دقيقة، ويتبنى العمليات وفق أسس معينة أيضاً. بينما ما قام به تنظيم “داعش”، خلال أعوام قليلة فقط، هو أنّه نقل “الفكر السلفي الجهادي” من الإطار النخبوي إلى الفضاء الشعبوي، وفتح الباب أمام الجميع، عبر ظاهرة الذئاب المنفردة، للقيام بعمليات، ومنحهم الغطاء الأيديولوجي والماركة المسجّلة “جنود الدولة الإسلامية”!
هذه النقلة النوعية مرعبة حقّاً، لأنّها تفتح المجال لأي محبط، أو مريض، أو غاضب، ليقوم بعملية كارثية، بوصفها “عملاً دينياً مقدّساً”، ضد قائمة واسعة عريضة من الأهداف غير المسبوقة، تبدأ من كل المدنيين (غير المسلمين) وتمر عبر “المرتدين” من كل من يعارض التنظيم، بمن فيهم “جبهة النصرة” والفصائل الإسلامية، وصولاً إلى أي هدف يحقق الهدف المطلوب، أي أنّ أغلب العالم اليوم تحت قصف المتحولين و”ذئاب داعش” المنفردة!