أكثر من سبب يقف وراء الاهتمام الهائل من قبل الشريحة العريضة من الأردنيين والعرب عموماً، بمتابعة تطورات محاولة الانقلاب التي جرت في تركيا، ليلة السبت حتى فجر اليوم التالي.
السبب الأول يتمثل -بالضرورة- في الترابط العضوي اليوم بين ملفات المنطقة. فما حدث في تركيا كان سيؤثر كثيراً على سياستها الخارجية، وبالتالي على الملفات الأخرى الساخنة القريبة منها، بخاصة السوري؛ كما على مواقف الدول العربية والإقليمية، وعلى ملف اللاجئين السوريين، وأوضاع الإخوان المسلمين، والاستقطاب العربي-العربي.
لكن ما يفسّر، من وجهة نظري، المتابعة المكثفة واللصيقة من قبل الأردنيين والعرب لما يحدث في تركيا، يتجاوز السبب السابق -على أهميته- إلى ما هو أبعد من ذلك؛ أي الدلالة المترتبة على نجاح الانقلاب وفشله على صعيد الملفات الداخلية في المنطقة، بخاصة الحالة الروحية للشعوب؛ فيما إذا كان مسلسل الثورة المضادة سينجح في إحكام قبضته على المنطقة بصورة كاملة، ويغلق الباب تماماً أمام الحلم الديمقراطي، ليقول للشعوب: لا مستقبل للديمقراطية في بلادكم، ولا حتى في محيطكم، وحتى تركيا التي راهنت على “الربيع العربي” ها هي تسقط في “فخّ” سياساتها تلك، أم أنّ الثورة المضادة نفسها وقعت في “الفخ” التركي، الذي سيفرملها ويقف في وجهها، ويعيد “إحياء” روح التمرّد على “مخرجات الثورة المضادة” في العالم العربي!
القصة ليست رجب طيب أردوغان فقط، بل هي مرتبطة برهانات الشعوب العربية والدول الإقليمية والعالم الغربي على مستقبل المنطقة والمصير القادم. لذلك، ميّز الليبراليون والسياسيون الديمقراطيون والمثقفون الموضوعيون بين موقفهم من أردوغان وعدم قبولهم بجزء من سياساته الداخلية والخارجية من جهة، وبين تأييد الانقلاب العسكري من جهة أخرى، بخاصة بعدما أثبت ما حدث في مصر أنّ الرهان على سيناريو “الانقلاب في خدمة الديمقراطية” هو رهان لا أفق له.
مع ذلك، بقيت نخبة من المثقفين العرب، الذين يدعون إلى الديمقراطية جهراً ويخفون احتقاراً لها في نفوسهم، وعدم إيمان بخيار الشعوب، على عهدها في عشق الانقلابات العسكرية التي تخدم أجنداتهم وأهدافهم السياسية، وبذرائع واهية. كانت هذه النخبة تتمنّى في قرارة نفسها نجاح الانقلاب، بالطبع إلى جوار حكومات عربية وضعت رهاناتها في الأساس في جعبة “الثورة المضادة”!
لو نجح الانقلاب العسكري واستكملت الثورة المضادة حلقاتها في تثبيت قناعة الاستعصاء الديمقراطي، وأيدت الدول الغربية “الوضع الجديد” في تركيا، ماذا كان سيحدث في المنطقة العربية؟
باختصار، ستكون المنطقة بأسرها تحت يد “الدعشنة” والتدعيش! لماذا؟! لأنّ الداعشية هي الابن الشرعي للاستبداد والدكتاتورية، وأخيراً الثورة المضادة، وهي المعادل الموضوعي لدى شريحة من الشباب العربي والإسلامي المحبط والغاضب واليائس من التغيير السلمي، الذي سيُلقي السمع لخطاب العدناني (الناطق باسم تنظيم “داعش”) عن المؤامرة العالمية والإقليمية والأزمة السُنّية، وعن عدم جدوى التغيير الديمقراطي والسلمي.
موقف تركيا-أردوغان من “داعش” في بداية الثورة السورية (التي تحوّلت إلى حرب أهلية) -لو وافقنا جدلاً على ما يقوله سياسيون ومثقفون عرب- هو عامل جانبي لتفسير ما تمتع به التنظيم في المرحلة الأولى من فضاء جغرافي وسياسي. أما السبب الجوهري لنمو “داعش” وصعوده، فهو: نحن وسياساتنا وأزماتنا. فلماذا يتناسى بعض “الرفاق” دور سياسات نوري المالكي وبشار الأسد التي أرادت إنبات هذا التنظيم لتضع الجميع أمام خيار؛ إما أنا أو “داعش”؟!
مدهش حقّاً حجم الترابط والاشتباك والتداخل في الملفات المحلية والإقليمية، حتى أصبح ما يحدث في أنقرة ودمشق بمثابة شأن محلي أردني أو حتى عربي!