بانهيار الاتحاد السوفياتي عام 1990، انتهت حقبة التبعية السياسية الخارجية للأحزاب. وأدركت جميع القوى السياسية في العالم أن دورها ومكانها ورسالتها هي في أوطانها، وليس لدى دول أخرى، تمنحها المال تارة ،والدعم الإعلامي تارة آخرى، والأيديولوجيا والفكر تارة ثالثة. ويكاد العالم العربي يكون الحالة الاستثنائية .فمع التقدير و الإحترام للأحزاب و القوى الوطنية الخالصة و المخلصة، لا يزال البعض من الأحزاب والقوى والشخصيات السياسية العريبة، ترتبط مصالحها وقراراتها ومواقفها السياسية والاجتماعية والفكرية مع دول و دوائر خارج الوطن ،سواء كانت في الإقليم أو خارجه. ولا تزال بعض الأحزاب العربية تستمد قوتها من الدعم الخارجي الذي تتلقاه من هذه الدولة أو تلك. فهذا حزب تدعمه طهران،وذاك تستضيفه استانبول، وثالث تحركه لندن و رابع تموله إحدى الواجهات الأوروبية للموساد، و غير ذلك الكثير.
أن الخطورة الكارثية الكامنة في هذه العلاقات غير الوطنية، انها تعمل على تفتيت المجتمع، وبعثرة النخبة، و إفشال الدولة، وتشتيت الرأي في كل اتجاه .ولعل الإخفاق في انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان،أو التوافق على حكومة في ليبيا، أمثلة صارخة على هذه الحالة. فالعديد هناك، شخصيات وأحزاب و جماعات، ينتظر الاشارة من الخارج ليحدد موقفه.و الأخطر من ذلك كله أن هذه الإرتباطات تصبح القنوات التي من خلالها تجري التدخلات الأجنبية في شؤون الأوطان. إضافة إلى ذلك، وعلى مدى الخمسين سنة الماضية، كان الإرتباط مع الخارج واحدا من أهم الأسباب وراء غياب الشخصيات الوطنية القيادية الموثوقة، وعدم استعداد الأطراف للتوافق والتصالح في النزاعات الا حسب «التعليمات.» الأمر الذي أدى إلى حالة التفتت والتبعثر والتشرذم في الاحزاب والقوى، بل والفكر السياسي العربي، كما ساعد على انهيار بعض الدول على أثر النزاعات الداخلية فيها، والتي خضعت الآحزاب والشخصيات هناك ،ليس لمصالح الوطن وانما لمصالح «المعلم» الخارجي.
لقد كانت تركيا هي آخر الدول التي لجأت اليها قوى الاسلام السياسي (مع الاحترام لها كدولة صديقة) ، لتصبح موئل الجماعات ومعقد آمالها، والبسوا تركيا عباءة من صنعهم تحت عنوان» النموذج الإسلامي الجديد».و قالوا إنها «دولة الخلافة المنتظرة»، فأصحبت المؤتمرات و الإجتماعات و الترتيبات تعقد في انقرة واستانبول . وحاولوا ايهام الشباب والمجتمعات العربية بأن ما يدعون اليه من « دولة الخلافة « « والسياسة والدين « « والنهوض الحضاري من خلال حزب ديني « « والشعبية الاسلامية «، وغير ذلك، كله موجود، وتمثله تركيا الدولة الحديثة، ويقوده اردوغان الذي يدعم حماس ويقف من اسرائيل موقفاً مناوئا ،يدافع فيه عن غزة وعن القضية الفلسطينية . ولكن ذلك لم يكن ،إلى حد كبيرجدا، الا في رؤوس أصحابه ،و لغاياتهم السياسية والمصلحية، وليس له علاقة بما يفكر فيه أو يفعله أردوغان ،الذي رأى في الإخوان جسرا سياسيا و اقتصاديا إلى مصر. و لكن انهيار الجسر استدعى المراجعة و إعادة الحسابات.
وبعد أن ضربت اسرائيل بكل عدوانية السفينة التركية «مرمرة» ،وتأزمت العلاقات الاسرائيلية التركية، ارتفعت الدعاية السياسية والفكرية والحزبية الاسلاموية لتركيا.هذا في الوقت الذي انطلقت المفاوضات الخلفية بين تركيا و اسرائيل، إلى أن عادت الأمور لما كانت عليه بعد اتفاق المصالحة مع اسرائيل ،الذي وقعته تركيا وقدم فيه اردوغان التنازلات المطلوبة لاسرائيل وروسيا. والذي دفع اتفاقه مع اسرائيل إلى تكريس الانقسام الفلسطيني بخطوة أضافية. وهذا أمر كان متوقعاً تماماً. فتركيا هي «الدولة» بمصالحها الاستراتيجية، وارتباطاتها العسكرية والاقتصادية العميقة، بغض النظر عن ما يشيع عنها الاسلامويين أو غيرهم،و يعطونها من ألوان ،و يعقدون عليها من آمال.و قبل تركيا كانت قطر و بريطانيا و الولايات المتحدة الأمريكية و ايران و غيرها.
وهذا في حقيقة الأمر ينبه إلى عدد من المسائل الرئيسية الأولى : وطنية الحزب . فكل شخصية أو جماعة أو منظمة مجتمع مدني، أو حزب سياسي لا تكون جذوره وأفكاره وتطلعاته وولاءاته وهمومه وتمويله داخل وطنه، يصبح عبئاً على الوطن، وعلى أعضائه، ويتحول إلى آلة يلعب بها «الآخرون» متى يشاؤون .الثانية : مصالح الدول . فالدول لا تعمل الا وفق مصالحها المستقرة العميقة، ولا تعنيها الأفكار والمبادئ ولا الانتماءات إلا في الظاهر . لقد قال اردوغان بصراحة « أن تركيا دولة علمانية» والدولة الذكية تسعى إلى توظيف كل شيء لخدمة مصالحها، وتعزيز مواقفها، بما في ذلك الاحزاب والجماعات و الشخصيات و المنظمات المأزومة في بلدانها. الثالثة : تقلب المصالح . فمصالح الدول متحركة ومتغيرة في الشكل والاتجاه، وفي التحالف والتوافق، وفي المصادقة والمعاداة .انها مصالح تتواءم مع المتغيرات في الاقليم وفي العالم، وليس مع شخصية هنا،و جماعة وتنظيم هناك . الرابعة : الدعم والتمويل . إن الدول حين تدعم أحزاباً ومنظمات وشخصيات وجماعات ليست وطنية، أو احزاباً أممية كالشيوعية سابقاً والقومية والإسلاموية، فهي ببساطة، تشتري لنفسها ولاءات و أدوات سياسية لتخدم أغراضها وتوجهاتها، وتمول آلات وأبواق دعائية للترويج لسياساتها .
واليوم و نحن مقبلون على إنتخابات جديدة يتساءل المواطن : «هل يمكن لجميع الأحزاب والشخصيات والقوى السياسية الوطنية في بلدنا العزيز أن تقوم بالمراجعات اللازمة لتحالفاتها واتفاقاتها وتمويلاتها وأفكارها وكل ارتباطاتها « خارج الوطن « ، إذا وجدت تحت أي مسمى، لتتخلى عنها نهائياً ؟بما فيها الاحزاب والجماعات «الشقيقة». هل يمكن ان تبدأ احزابنا وسياسيونا الذين لهم ارتباطات خارجية مرحلة جديدة ؟بعيدة عن المديح لهذا النظام ،والترويج لتلك الدولة، والتمويل من هذا المصدر؟، حتى تعود ثقة المواطن بأحزابه وقواه السياسية ،وتتغير لدينا المفردات والمدلولات من السوري و العراقي والأخوان الدولي والتنمية التركي لتكون كلها وطنية أردنية خالصة ؟ نحن بحاجة إلى « مدونة سلوك وميثاق شرف للأحزاب»، والجمعيات ومنظمات المجتمع المدني» كما هو في كثير من الدول،لضبط تحالفاتها وارتباطاتها ،لتكون كلها وطنية أردنية بالمطلق . هذه مسؤولية وزارة التنمية السياسية ينبغي أن تباشر فيها و تستفيد من دراسات و أعمال المراكز العالمية للديموقراطية ، حتى تبدأ القوى السياسية والمنظمات المدنية المرتبطة بالخارج مرحلة جديدة تقوم على أساس الولاء للوطن وللدولة الأردنية بالكامل والمطلق، فذلك الذي يمكن أن يبث في الحياة السياسية والحزبية منها بشكل خاص، روح الأمل من أجل مستقبل وطني لا يراهن فيه أحد على ارتباطات أجنبية تحت أي غطاء.
الأرتباطات الوطنية….. والتحالفات الخارجية/د.ابراهيم بدران
12
المقالة السابقة