ثمة دروس مهمة من ليلة محاولة الانقلاب على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزبه الحاكم “العدالة والتنمية”.
بدأت المحاولة فاشلة، وأخذت مظاهر هذا الفشل تتضح مع مرور الوقت؛ وأهمها أن الأحزاب المعارضة لحكومة “العدالة والتنمية” رفضت فكرة الانقلاب العسكري، بما في ذلك حزب “الشعوب الديمقراطي” الممثل للأكراد الذين يخوضون معركة طويلة مع الحكومة التركية والرئيس أردوغان. وهو ما يعني أن الأحزاب، على اختلاف توجهاتها، انحازت لصندوق الاقتراع، ولم تضع خلافاتها، لاسيما مع الحزب الحاكم، ضمن المعادلة، وبالتالي تقرير موقفها بناء على ذلك؛ فكان رفض حكم العسكر هو عنوان هذه الأحزاب، إيماناً بأن التغيير ممكن من خلال صندوق الاقتراع.
أما على صعيد مواقف الأطراف الدولية المؤثرة، فقد كانت ردود أفعال غالبيتها العظمى، غامضة في بدايات القصة، من خلال تصريحات خجولة تطالب بعدم إراقة الدماء. ثم مع اتضاح الصورة أكثر، خرجت مواقف واضحة تدعم الحكومة المنتخبة وتؤكد احترام الدستور والعملية الديمقراطية.
الانقلابات العسكرية لم تعد أمرا أخلاقيا، ناهيك عن سجلها الحافل فشلاً في تحقيق أي إنجاز. وهي من ثم لم تعد طريقاً مقبولة للتغيير، حتى لو وصل الاختلاف في الرأي والخلاف بين المكونات المجتمعية والسياسية حد القطيعة؛ ففي هذا الزمن ليس ثمة أداة أفضل من صندوق الاقتراع.
وأهم مما سبق، أن الشعب نزل إلى الشارع ليحمي منجزه الديمقراطي؛ فكان أحد عوامل فشل الانقلاب؛ انحيازا للرئيس ربما، لكن بدرجة أكبر حفاظاً من هذا الشعب على ما حققه في السنوات الماضية من حياة مدنية ديمقراطية. هكذا، كان الشعب التركي هو الورقة الرابحة في تلك الليلة، خصوصا أنه يدرك تماماً معنى الحكم العسكري، بعد أن عانى كثيراً من الانقلابات العسكرية، فيما جنى مكتسبات الحكومات الآتية عبر صندوق الانتخابات، سواء كانت مكتسبات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية.
وبذلك التقى الشعب التركي مع التيارات السياسية المختلفة، التي عليها أيضاً أن تراجع أوراقها وتعيد ترتيب أوضاعها الداخلية، بحيث يخف ثقل يد الجيش لصالح القوى الحزبية والمدنية عموما.
النصر في ليلة السبت ليس للحكومة التركية وحزب “العدالة والتنمية” الحاكم، بل للمجتمع الذي آمن بخيار الحكم الديمقراطي ومارسه، وكذلك لقطاع واسع من مؤسسة الجيش الذي رفضت أغلبيته فكرة الانقلاب وانحازت للوطن.
المضحك في القصة أننا نحن العرب انقسمنا على الانقلاب؛ ففي مقابل قلة رفضت المبدأ المتمثل في حكم العسكر، كان هناك من وقف مع الانقلاب تبعا لموقفه من سياسات تركيا من القضايا الإقليمية، وفريق آخر رفضه انحيازا لسياسة أردوغان أيضاً. وسيطرت لغة التشفي بين هذين الفريقين، ووصلت حد الردح أحيانا، في انعكاس مؤلم لضعف ثقافتنا الديمقراطية، وبما يعني أننا شعوب ما تزال في طور التشكل الديمقراطي. هذا فيما وقف الأتراك على اختلاف تياراتهم خلف بلدهم وحكومتهم، لمعرفتهم التامة بفوائد الديمقراطية وحرية الاختيار. وبينما ستمضي تركيا في ديمقراطيتها منتصرة لصندوق الاقتراع، نختلف نحن على ما لديها وليس ما نحن فيه!
المحصلة، وبغض النظر عن بعض سياسات أردوغان؛ بمحاولة الاستحواذ على السلطة واستعادة دور السلطان، وقمع الإعلام وسجن الصحفيين، تبقى الانقلابات العسكرية وحكم العسكر ليست وصفة صالحة للحكم. إذ حتى إن نجحت مؤقتا، فإن ذلك لا يعني أنها قادرة على تحقيق طموحات المجتمعات، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً.