مطلع الثمانينات الميلادية، تم اقتحام بيت الله الحرام بقيادة جهيمان في حدث إرهابي بشع هزّ العالم الإسلامي إلى حد إصابته بالصدمة، حتى ظُن أن ذلك من علامات القيامة الكبرى التي سينتهي معها العالم، مما جرح سلام مجتمعنا الهادئ آنذاك.
وعام ١٩٩٥ تم تفجير مبنى للقوات الأميركية في الرياض بأيدي شبابنا كأول عملية إرهابية من هذا النوع الغريب على بيئتنا المسالمة، تبعتها أعمال وضعت أسماء كثيرة من أبناء هذا الوطن ضمن قوائم صُنّفت من ضمن إرهابيين مطلوبين عالميين لتورطهم في قضايا تهدد أمن العالم ككل، وكان آخر كفرهم وفجورهم وفسوقهم ما رأيناه في الشهر المبارك من رمضان هذا العام، إذ فجّر أحدهم نفسه بالقرب من مسجد رسول السلام صلوات الله وسلامه عليه من دون مراعاة لحرمة زمان أو مكان!
أكثر من ٣٥ عاماً والورم يكبر في جسد الوطن ومواطنيه، ونحن نسعى جاهدين لاستئصاله، ولكنه خبيث إلى درجة أن القضاء على خلية يُنبت خلايا أشرس مما قبلها!
ولأن شهادة الحق يجب أن تقال، فالمشكلة ليست في تقصير أمني أو رفض مجتمعي، فجهود الداخلية السعودية برجالها يشهد لها العالم كله، ويشيد بها وبمهنيتها في سرعة القبض على المتورطين، والمهارة في الكشف عن خلايا مستترة جديدة، وإجهاض دمارهم قبل أن يولد، أما المواطنون فمؤازرتهم الدينية والاجتماعية تتمثل في رفض ذوي المعتدين سلوك أبنائهم، وتبرئهم منه، وتبليغهم بحالات كثيرة عنهم على رغم الألم الذي يدمي قلوبهم على مصيرهم، ولكنه الوطن وحرماته.
ومع هذا وعلى رغم كل هذه الجهود الأمنية والشعبية، إلا أن الفكر الضال ما زال في نماء.. له منادون.. ومعجبون.. ومدافعون.. ومنساقون، وما زلنا على رغم هذه السنوات الطوال لم نجد حلاً يجتث الخبث من جذوره لنسلم من شره.
فأين المشكلة؟ وما الحل؟
من يتأمل في هذه الظاهرة سيجد أمامه مثلثاً إرهابياً متوازي الأضلاع، أحدها يفرض مشروعه الخبيث بأساليب تجعل صغار العقول ضعفاء النفوس يعجبون بهم، وضلع فقد كل شيء حوله، فوجد في هذا الفكر مهرباً، وآخر ينافح عنهم بالدليل والإثبات والبرهان ليلتمس لهم بدل العذر ألفاً!
من يتأمل في مشاهد التفجير والقتل والعقوق والنحر والهجرة إلى مناطق النزاعات، يسأل نفسه ما هي أزمة هؤلاء الذين باعوا أنفسهم للشياطين غير مبالين بالتهلكة؟
وأعتقد أن إحدى الإجابات هي افتقادهم القدوة، لذا هم في شغف للبحث عن قدوات مزيفة تختصر لهم طريق الوصول إلى الجنة! وهنا يجب أن نحمّل أنفسنا الخطأ، فنحن من أهمل الاقتراب من مناطق الصراع في عقول وتفكير ونفسيات شبابنا وتلمس حاجاتهم، ودائماً نحن بعيدون كل البعد عن خط تماس تساؤلاتهم ومناطق الحيرة والوجل عندهم.
ما يمرّ به شبابنا ليس بدعاً، فكلنا نذكر هوس شباب العالم بالنازية والفاشية لفترة، وحركة اليسار والتحرر في فترة أخرى، وكل حركات الثورات والانتقام والحركات العنصرية التي تدخل إلى عقول الشباب من أبواب فراغها من فكر يستطيع تمييز الخطأ من الصواب، ومن قلوب تفتقر إلى إيمانيات، وعواطف تمنعهم من الإضرار بأنفسهم وأوطانهم وأهلهم.
لذا نحن بحاجة إلى مراكز أبحاث عملية أكثر منها نظرية، تقرأ المشهد وتستقرئ الحدث فتسبق المعتدي قبل أن يكبر الضرر.
نحتاج لإبراز قدوات صالحة تعيش وتتفاعل معنا واقعاً لا افتراضاً، أناس يستطيعون قراءة الرغبة واستشراف الحاجة، ومن خلالها يؤثرون ويقودون ويصنعون شباباً يفكر ولا ينقاد، يبني لا يهدم، ويحلل قبل أن ينساق.
يعلمونهم كيفية التمسك بالرأي مع تقبل الرأي الآخر، وأن الاختلاف يكون عامل رقي وابتكار ما دام لا يفسد للود قضية. قدوات يعلمون المجتمع أن الوطن من الحرمات التي يجب ألا يُعتدى عليها، يغذون الشباب بحب الأرض حتى تجري الوطنية في عروقهم مجرى الدم.
ومنهم يتعلم شبابنا أيضاً حب الدنيا والاستمتاع بها من دون التفريط بالآخرة، ويزرعون في نفوسهم أن السلامة في التدين والحزم في كره كل ما يبعدنا عن الله. ولكن كما أمر الله من غير تشدد ولا تنطع ولا غلو يهلك صاحبه ويهلك أهله ووطنه، ليصل به من أقصر الطرق ليكون من حطب جهنم مخلداً في النار وبذلك يكون خسر دنياه وآخرته.
في رمضان قدمت mbc برنامج «من الصفر» من إعداد وتقديم المبدع مفيد النويصر، ومن خلاله رأينا نماذج لقدوات هزمت المستحيل، وكافحت لتصل وتحقق حلمها، أعتقد أن إشاعة مثل هذا الطرح والتعرف على هؤلاء الكبار سيمنحان شبابنا نماذج حية تساعدهم في السير بسلام في مسارات الحياة، بعيداً عن مستنقعات الفتنة والزيغ والعنف.. حفظنا الله وإياكم وذرياتنا من كل إرهاب.