اتّجه محللون من السعودية إلى تحميل إيران عملية تفجير مركز الطوارئ بالقرب من المسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة، وكانوا بذلك يشيرون إلى تهديداتٍ صدرت عن قادة عسكريين إيرانيين، وعن الدور الإيراني، أو حتى عن سيناريو اختراق تنظيم داعش من إيران، وربما بوصفه أداةً لخدمة المصالح الإيرانية.
هذا التوجّه مفهوم في أكثر من سياق، الأول رد الصاع لإيران التي تحمّل السعودية دوماً مسؤولية دعم تنظيم داعش، في العراق وسورية، وتربط بين الدعوة السلفية والسعودية وهذه الحركات. وهو مفهوم ثانياً، نظراً لتأثير الدور الإيراني العميق في تأجيج المشاعر الطائفية، وتعميق الأزمة السنّية اليوم، في كل من العراق وسورية واليمن، ودول أخرى في المنطقة.
وربما يكون مفهوماً ثالثاً، من زاوية التداخلات التي تحدث في المنطقة وعمليات التوظيف التي تتم لهذه التنظيمات من القوى الإقليمية، وخصوصاً تلك الموالية لإيران في العراق وسورية، التي عملت على توفير البيئة الخصبة لنمو هذه الجماعات والأفكار، رد فعل يائساً ومحبطاً على الشعور بالتهديد الوجودي والهوياتي للسنة في تلك المناطق، وهو الشعور الذي لم يقف عند هذه الدول، بل اجتاح المنطقة العربية بأسرها.
مع ذلك، من الضروري أن نميّز بين هذه المسؤولية السياسية والتاريخية الإيرانية ومسؤوليتنا نحن في العالم العربي عن صعود هذه الجماعات، وما تعكسه من واقعٍ خطيرٍ، يتجاوزها إلى ما يمكن أن نطلق عليه “أزمة الإسلام السنّي”. وتتمثل هذه اليوم بجانبين مهمين، يتوازيان بالخطورة؛ الأول هو الجانب السياسي على مستويين رئيسين؛ الأول الفراغ الاستراتيجي في المنطقة العربية، المرتبط بعدم وجود قوى عربية سنيّة، ولا حتى إسلامية قادرة على مواجهة التحديات التاريخية، سواء ما يحدث في العراق وسورية أو اليمن أو ليبيا، أو أي دولة أخرى.
النظام الإقليمي العربي في حالة انهيار، وعلى الرغم من أنّه كان تقليدياً هشّاً وضعيفاً، ومرتبطاً بالتوازنات الدولية، إلا أنّه اليوم غير موجود تماماً، فلا توجد منظومةُ واحدة، ولا حتى محاولات لردم الفجوة الكبيرة، ما شجّع الإيرانيين على ملء الفراغ، منذ العام 2005. والمفارقة أنّ تركيا، بوصفها قوةً سنيّةً، عندما استدارت وحاولت المشاركة مع الدول العربية في تشكيلٍ نظام جديد، واجهت حرباً غير معلنة، لكنها لا تقل شراسةً عن الحرب الإيرانية.
تتضافر أزمة النظام الإقليمي العربي مع انتهاء صلاحية العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية، وما أفرجت عنه سياسات إدارة أوباما، وأشارت إليه تسريباته الإعلامية من نظرةٍ مختلفةٍ تماماً للعالم العربي والمسألة السنيّة إن جاز التعبير.
المستوى الثاني من الأزمة السياسية يتمثل بانهيار الدولة القطرية وتبدّد شرعيتها، وعدم قدرتها على مواجهة سيناريو التفكيك والتشظي، وإغراقها في الأزمات الداخلية البنيوية، ما جعل العلاقة بين الدولة والمجتمع والفرد محلّاً للنقاش والجدل، وفجّر الحركات الاحتجاجية الداخلية، وأحد أبرز ملامحها صعود الإسلام الراديكالي الذي يمثل، في جوهره، حركة احتجاج اجتماعي بأيديولوجيا دينية.
يتمثل الجانب الثاني من أزمة الإسلام السني في الشق الفكري والموروث الثقافي والفقهي، إذ على الرغم من محاولات الاجتهاد والتجديد، إلا أنّ النموذج التأويلي المحافظ والتقليدي أو الحرفي، لا الاجتهادي، هو الذي يسود أكثر في أوساط المجتمعات العربية، ما سهّل من عملية الاختراق لدى تنظيم داعش، وقدرته على التلاعب بالرموز الدينية والأحلام التاريخية لدى شريحةٍ اجتماعيةٍ واسعةٍ من الشباب العربي والمسلم والمحبط من الواقع السياسي.
من الضروري أن ننظر اليوم إلى ما يحدث في المنطقة العربية، ومن صعود نموذج “داعش” وقدرته على التجنيد، وما يقوم به من عمليات دموية وعدمية في سياق أزمة الإسلام السنّي، وتكامل الأزمتين السياسية والفقهية في العالم الإسلامي السني اليوم.
ذلك لا يعني أنّ الإسلام الشيعي لا يعاني من أزماتٍ ولا مشكلات. لكن، ضمن القراءة الاستراتيجية الراهنة، يملك الإسلام الشيعي بالفعل قوة إقليمية تحمله وتدافع عنه، وتغطي على مشكلاته الثقافية والفكرية، بينما الفراغ الكبير في العالم السني اليوم يعزّز من دعوى “داعش” أنّها الندّ الطائفي والسياسي للمشروع الإيراني.