لم يكن أحد في العالم العربي ينتظر نتائج التحقيق بقرار بريطانيا المشاركة في الحرب على العراق ليصدر حكمه على رئيس الوزراء السابق توني بلير. ففي نظر الأغلبية الساحقة يبدو بلير كمجرم حرب، مثله مثل الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن.
تقرير”تشيلكوت” لم يخلص إلى هذه النتيجة بالطبع، وقد لايكون التحقيق في الأصل معنيا بالإجابة عن أسئلة العرب حول شرعية غزو العراق من عدمها. التقرير كان استجابة لأسئلة تخص بريطانيا بالدرجة الأولى، وفي مقدمتها سؤال جوهري: هل كذب بلير على البريطانيين عندما زعم امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل؟
لم يجب التقرير صراحة عن هذا السؤال. لقد أوحى في أكثر من فقرة بشيء من هذا القبيل، لكنه حمّل أجهزة الاستخبارات وليس بلير المسؤولية عن الادعاءات المفبركة.
لكن بالمجمل، التقرير اعتبر قرار المشاركة في الحرب غير صائب، ومتعجلا، ومجاراة كارثية من جانب بلير لحليفه بوش، دون استعداد لمرحلة مابعد الغزو، أو إدراك لنتائجه المروعة على الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم.
باختصار التقرير دان الغزو، ولم يدن بلير.
وعليه، ليس متوقعا أن تنجح عائلات الجنود البريطانيين الذين قتلوا في العراق بجر بلير للمحكمة.
لكن ثمة ماهو أسوأ من ذلك؛ فقد جاء التقرير في توقيت سيئ بالنسبة لبريطانيا المجروحة بكبريائها بعد تصويت الأغلبية على الخروج من الاتحاد الأوروبي. لم يشفع ندم الساسة البريطانيين عند الأوروبيين. كبار أوروبا الغاضبون من نتيجة الاستفتاء، يودون معاقبتها بتسريع خطوات خروجها من مؤسسات الاتحاد، واقتسام الغنائم الاقتصادية لهذه الخطوة، بعدما اختارت بنفسها العزلة عن باقي أوروبا.
لم تكتف بريطانيا بهذه الحماقة؛ فقد جرّمت مشاركتها في حرب العراق، وبرّأت بلير على حساب سمعتها.
بريطانيا اليوم في لحظة تاريخية فارقة؛ منبوذة أوروبيا، ومدانة عالميا على دورها في غزو العراق، أو مايصح تسميتها بمأساة القرن.
كان ينظر لبريطانيا على أنها دولة المؤسسات الأولى في العالم؛ “الإمبراطورية” التي بنت دولا حول العالم، وصممت نموذجا فريدا في إدارة المؤسسات، مايزال ساريا في عديد الدول. في تقرير”تشيلكوت” ظهرت مؤسساتها ألعوبة في يد أجهزة الاستخبارات، والجواسيس. ورئيس وزرائها مجرد دمية في يد الرئيس الأميركي. وأكثر من ذلك حكومة مارقة، ترفض الاحتكام لمجلس الأمن وقراراته.
لم تكن بريطانيا في واقع الأمر مسؤولة عما آلت إليه الأمور في العراق بعد الغزو؛ فالولايات المتحدة هى من تولى إدارة الكارثة في العراق، وارتكاب الأخطاء الفادحة. لكن بريطانيا، بعد تقرير”تشيلكوت” تبدو وكأنها من صنع الكارثة في العراق. فقد حول التقرير الأنظار عن المتهم الرئيسي”اميركا” وسلط الضوء على شريك المتهم “بريطانيا”.
تقرير”تشيلكوت” كان بالنسبة للعراقيين كمن يفرك جراحهم بالملح. صدر في لحظة مأساوية؛ فبينما كانوا يلملمون أشلاء ضحايا تفجير الكرادة، ظهر السيد تشيلكوت ليبلغهم بأن قرارات بلاده الخاطئة هي التي أوصلتهم للدرك الأسفل. فكان لابد في مثل هذا الحال، أن يخرج من بينهم من يترحم على صدام حسين.