قبلت تركيا اعتذار الكيان الصهيوني عن مهاجمتها أسطول الحرية سنة 2009، وقدّمت اعتذاراً لروسيا على إسقاطها الطائرة الحربية الروسية قبل أشهر. فقد وتّرت علاقتها بالدولة الصهيونية، وهي في علاقات ممتازة مع العرب، وتطمح لأن تلعب دوراً محورياً في الشرق. وتوترت علاقتها بروسيا، وهي في أزمةٍ عميقةٍ على ضوء تطور الوضع السوري، والصراعات الإقليمية والدولية حول سورية.
مع استلامه الحكم، عمل حزب العدالة والتنمية على نظرية “صفر مشاكل” مع الدول المجاورة. لكن، كان يبدو أن رفض أوروبا تركيا يدفع الأخيرة نحو الشرق. هذا ما ظهر في تصويت الشعب لحزب العدالة والتنمية (وقبله لحزب أربكان الذي هو جزء من تنظيم الإخوان المسلمين)، وما جعل الحزب يميل إلى تطوير علاقاته مع “الشرق”، العرب وإيران. وقد ظهر أن منظوره يقوم على أحقيّة تركيا مدّ سيطرتها على هذا الشرق، خصوصاً البلدان العربية، في سياق سعيه إلى أن تصبح تركيا قوة عالمية، كما تكرّر في خطاب أردوغان وداود أوغلو. وكان الاقتصاد في جوهر الأمر، حيث أن تطور تركيا وتحولها قوةً عالميةً يفرض أن يتطور اقتصادها بشكل سريع، ويزداد دخلها القومي وأرباح رأسمالييها. لهذا، رأت في البلدان العربية سوقاً كبيراً لسلعها ولنشاط رأسمال برجوازيتها. لهذا، نشطت في مشاريع في ليبيا والعراق وسورية ومصر، وطورت تصديرها إلى هذه البلدان. وزاد النشاط الاقتصادي لها في هذه البلدان، كما تضاعف تصدير السلع.
“ربما لم تحقق تركيا حلمها الإمبراطوري، لكنها ظلت تحافظ على وضعيةٍ تخدم مصالحها، وقد ساعدت على ذلك المصالح المشتركة مع روسيا”
انطلاقاً من ذلك، رأت أنها أحقّ من الدولة الصهيونية في السيطرة. لهذا، قرّرت الاصطدام مع هذه الدولة لتحجيم طموحاتها، وفرض حلٍّ ينهي الصراع، وبالتالي، يلغي الطموح الصهيوني للسيطرة الأوسع. هذا الأمر الذي ظهر في سعيها إلى كسر الحصار عن قطاع غزة، الأمر الذي فرض الصدام مع الدولة الصهيونية، ومن ثم حدوث القطيعة معها. على الرغم من أن العلاقات بين البلدين كانت متطورة، حيث أن الدولة الصهيونية “حليف” مباشر لحلف الناتو، ما فرض تطور العلاقات العسكرية بينهما. وظهر نتيجة هذا الصدام أن العلاقات انتهت “إلى الأبد”، وأن ميل تركيا إلى تحجيم الدولة الصهيونية جدّي، بالضبط لأنها تريد هي الهيمنة والاستحواذ على سوف “الشرق الأوسط”.
كان لسورية موقع محوري في إستراتيجية حزب العدالة والتنمية، ليس لقربها فقط، ولا نتيجة العلاقات “التاريخية” القائمة، على الرغم من مرورها بأزماتٍ كبيرة، نتيجة الخلاف على لواء الإسكندرون، ودعم النظام السوري حزب العمال الكردستاني (وهذا ما جرى حله بتنازل النظام عن الإسكندرون بعد تطور العلاقات)، لكن لحصولها على مشاريع كثيره، وحصولها على تسهيلاتٍ كبيرة في مجال تصدير السلع إلى السوق السورية. وأيضاً كانت سورية الممر الأهم للسلع التركية إلى الخليج، فهو الأقرب والأكثر أمناً. هذا الأساس هو ما أنشأ العلاقة الوثيقة و”الحميمة” بين البلدين ورئيسيهما، إضافة إلى تشكيل محور الممانعة مع قطر، حيث كسرت تركيا القرار الأميركي بحصار النظام السوري. وهذا ما جعل أردوغان يحاول طوال ستة أشهر بعد الثورة إقناع الأسد بضرورة الإصلاح وتأسيس دولة تعدّدية، لكي يبقى في السلطة. حيث كانت الخشية التركية (كما خوف النظام) من تدخل أميركي يسقط النظام (وهو وهم مشترك). لكن رفض النظام القيام بإصلاحاتٍ جعل تركيا تنقلب إلى دولة تريد تغيير النظام (مع قطر وفرنسا)، قبل أن يحدث “التدخل الأميركي” كما جرى التوهم. فهي معنيةٌ باستمرار مصالحها التي أخذتها من بشار الأسد، ولا تريد أن يحدث تحول يُخرج سورية من حدود مصالحها. وهذا كان يُظهر الخلاف التركي الأميركي، مع أن واشنطن لم تكن معنيةً بالتدخل أصلاً. وظهر الخلاف أكثر بعد أن شكلت تركيا وقطر وفرنسا بديلها السوري (المجلس الوطني السوري)، حيث منعت أميركا خطط التدخل العسكري من حلف الناتو، وحتى دعم المسلحين، ومن ثم “باعت سورية لروسيا” منذ سنة 2012، خصوصاً مع إقرار مبادئ جنيف1.
هنا، وقعت تركيا في إشكاليةٍ أولى، حيث ظهر أن “القوى العظمى” توافقت على مصير سورية، وأنها خارج الحساب في هذا الأمر. وكان ذلك يعني انهيار كل منظور أردوغان والبرجوازية التركية. والواضح أن أميركا كانت تتقصّد ذلك، حيث ظهر أنها تريد تحجيم تركيا، ربما نتيجة اعتراضاتها المتتالية على الإستراتيجية الأميركية، وتخلي أميركا عن الاهتمام بها، بعد انتقال أولوياتها إلى آسيا والمحيط الهادي. هنا، ظهر لتركيا أنها محاصرة من أميركا التي تريد تقزيم دورها، وتحطيم طموحها لأن تتحوّل الى قوة عالمية.
وإذا كانت تركيا قد عملت على أن تقيم حواراً مع إيران وروسيا حول الوضع السوري، ولحل “الأزمة” السورية، وأن يكون هذا الثلاثي هو من يحقق الحل (أي بعيداً عن أميركا)، فقد اصطدمت بزيادة الدور الإيراني المباشر في سورية، من خلال إرسال قوات حزب الله والمليشيا الطائفية العراقية والحرس الثوري، من أجل ضمان استمرار النظام. وقد استغلت الوضع الجديد، لكي تُحكم سيطرتها على القرار في الدولة، وأن ترفض كل حلٍّ خارج بقاء النظام وتصفية الثورة. ولهذا، باتت العلاقة التركية الإيرانية مرتبكة، على الرغم من أن تركيا أسهمت في كسر الحصار الأميركي على إيران، وسهّلت بيع النفط، وتحويل ريعها إلى ذهب. وكانت المدخل للسلع المستوردة من إيران.
ظهر الخطر الأكبر حين تدخلت روسيا عسكرياً. كان واضحاً لتركيا أن أميركا تميل إلى أن “تعطي” سورية لروسيا في إطار التقاسم العالمي، وظهر ذلك واضحاً في التوافق على مبادئ جنيف1 في أواسط 2012. لكن العلاقات التركية الروسية ظلت تتطور إلى حدّ الاتفاق على مدّ خط أنابيب غار عبر تركيا إلى أوروبا، كما كانت روسيا هي الشريك الأول في التبادل التجاري مقارنة بأوروبا وأميركا (فقط كان مجمل التجارة مع الاتحاد الأوروبي ككل أكبر من التجارة مع روسيا). وكان يظهر أن التفاهم على الوضع السوري أمر ممكن. إلى أن تدخلت روسيا عسكرياً، ودعمت الحرب ضد الكتائب المعارضة، وحاولت سحقها في ريف اللاذقية (حيث هناك وجود للتركمان)، والتقدّم للسيطرة على الحدود الشمالية لسدّ الطريق على التدخل التركي.
“بات يتصرّف انطلاقاً من المصالح الاقتصادية، وممكنات موازين القوى. ولا شك في أنه يحلم بالتفاهم مع روسيا على “تقاسم” المصالح في سورية”
هنا، تفجّر التناقض التركي الروسي، حيث ظهر جلياً أن كلاً منهما يريد السيطرة على سورية، وأن سورية مسألة مفصلية في استراتيجية كل منهما. فجرت السياسة العسكرية الروسية حنق تركيا التي أسقطت طائرةً روسية دمرت العلاقات بينهما، على الرغم من أهميتها للطرفين. فروسيا تقدمت إلى سورية، لكي تفرض سيطرتها، وأيضاً لإظهار قوتها من أجل أن تثبت قدرتها لأن تكون قوةً عالميةً مكافئة لأميركا، ووريثة لها. ولهذا، كان إسقاط الطائرة إثباتاً على ضعف قدرتها العسكرية، وهذا يخلّ بإستراتيجيتها التي تقوم على أن تكون قوة هيمنةٍ عالمياً، إمبريالية. وأحسّت تركيا أنها محاصرة، وتفقد كل أوراقها، حيث تلجمها أميركا من طرف، وباتت في وضعٍ يفرض خسارتها سورية، وأيضاً تشكيل “كيان كردي” على حدودها الجنوبية، بدعم أميركي روسي. لهذا، انفلت هدوؤها، واندفعت إلى الصدام مع روسيا. لكن تركيا وجدت نفسها وحيدة في صراع كبير، فعلى الرغم من دعم حلف الناتو لها كونها عضواً فيه، إلا أنه كان واضحاً أن الحلف لا يريد الصدام مع روسيا، ولن يشارك في صدامٍ ممكن أن يقع بين تركيا وروسيا. لهذا، كان عليها أن تقرّر إما الانزلاق الى حرب مع روسيا في سورية وحيدة، أو إعادة بناء إستراتيجيتها. وتفرض هذه المسألة الأخيرة عليها التخلي عن جزءٍ من طموحها الكبير، أو على الأقل الأمل في أن تحققه وفق سياسة “صفر مشاكل” من جديد. فهي بحاجةٍ إلى تفاهم مع روسيا لتخفيف الضغط الأميركي، ونتيجة المصالح الاقتصادية الكبيرة بينهما، وكذلك للجم “حلم الفيدرلية الكردية”. وهي بحاجةٍ لعلاقاتٍ جيدة مع إيران، نتيجة العلاقات الاقتصادية، والتوافق على رفض الفيدرالية الكردية. وضمن ذلك كله، يمكن أن تعيد العلاقة مع الدولة الصهيونية التي هي مفيدة اقتصادياً وسياسياً لها.
ظهر، إذن، انهيار حلم “الإمبراطورية” الذي حكم أردوغان، وبات يتصرّف انطلاقاً من المصالح الاقتصادية، وممكنات موازين القوى. ولا شك في أنه يحلم بالتفاهم مع روسيا على “تقاسم” المصالح في سورية. وفي كل الأحوال، سوف يعيد إنهاء الصراع السوري فتح الطريق لبضائعه، لكي تصل إلى الخليج. وهذا يعني، أيضاً، تهميش وضع الإخوان المسلمين في استراتيجيتهم، والقبول بالحل في سورية، ربما كما السعودية على أساس ترحيل بشار الأسد، وهي المسألة التي يمكن أن يجري التوافق عليها مع روسيا.
سوف ينعكس ذلك كله على طبيعة الصراع في الشمال السوري، فربما كان وقف دعم روسيا تقدّم قوات النظام في الشمال، ومحاولة الكتائب المسلحة إعادة السيطرة على المناطق التي خسرتها في الهجوم المدعوم روسياً، بداية ترتيب التوضعات العسكرية مقدمة للوصول إلى الحل السياسي. وربما كان ذلك كله يجري في ظل “حكمة” الدبلوماسية الأميركية التي تكون قد أقنعت تركيا بأن سورية هي لروسيا.
ربما لم تحقق تركيا حلمها الإمبراطوري، لكنها ظلت تحافظ على وضعيةٍ تخدم مصالحها، وقد ساعدت على ذلك المصالح المشتركة مع روسيا.