في عام 1963 دعا جون كينيدي إلى اصدار قانون للحقوق المدنية لاعطاء حقوق المساواة والمواطنة للجميع، بمن فيهم السود. و في العام التالي وقع الرئيس لندون جونسون القانون . ولم يمض أكثرمن 44 عاماً أي جيل ونصف ، حتى انتخب الشعب الامريكي مواطنا أسوداً ( مع الاحترام ) ،أبوه مسلم واسمه حسين ،رئيساً للدولة الامريكية، هو المسيحي باراك اوباما. كيف جرى، تغيير عقل الأمريكيين ليختاروا من الفئة التي كانت مستعبدة لديهم رئيسا لأعظم دولة في العالم ؟ ولدورتين؟ ولماذا؟
أن شعوب تلك الدول تتطلع إلى المستقبل، ولا تحكمها عقد الماضي أو ملابساته . فالفيصل عندهم : « ليس الأصل و الفصل و الدين و اللون و المذهب و الجهة وتراثات التاريخ ، و إنما ماذا يستطيع أن يقدم الإنسان لبلده .المواطنة هي المرجعية الأولى «. كما أن القوانين في الدول الديمقراطية تعبر عن إرادة الشعب و مساره المستقبلي. و بصدورها تنشأ ،معها و فيها، ثقافة وتربية واعلام و ممارسة فردية و مؤسسية تجعل روح القانون جزء من عقل وضمير الأمة.
وفي عام 1965 كانت البطالة في سنغافورة 70% والمجتمع في حالة بائسة من الفقر و التخلف و سوء السلوك العام. وفي خلال 60 عاماً ، أي في عام 2015 اصبحت سنغافورة الدولة الاقل فساداً في العالم ،وارتفع دخل الفرد ليصل 43 ألف دولار أي 8 أضعاف متوسط الدخل في البلاد العربية . لماذا و كيف ؟. إن حالة الفقر والتخلف «صدمت « القيادات الرسمية و الأهلية في سنغافورة. بل «أشعرتها بالخزي» فلم تقبل بها. ولم يجد» لي كوان يو «،رئيس وزراء سنغافورة حينئذ، أي فخر أو رضا أن يرأس دولة متخلفة ماديا ومعنويا وسلوكياً. فقررت الدولة أن تنظر إلى المستقبل لتنهض و تصبح دولة متقدمة، ليس في الاقتصاد وانما في كل شيء على الإطلاق: في التعليم و مكانة المعلم و الإدارة و الصناعة و التكنولوجيا و البحث العلمي و السلوك و الإنضباط و القضاء و النزاهة والشفافية و النظافة. ونجحت بامتياز.
و في عام 1969أجرى ديغول استفتاء على تعديل بعض مواد الدستور فأيد التعديل 47% وعارضه فقط 53%. فاعتبر ديغول ذلك مؤشراً على عدم رضا الشعب عن سياساته . فأعلن على الفوراستقالته من رئاسة فرنسا، وغادر «الاليزيه» في صباح اليوم التالي إلى قريته التي بقي فيها حتى مات . لماذا ؟ لأن الإستقالة في مثل هذه الحالات هي تعبير عن كبرياء الحاكم ( وليس استكباره) وكرامته المستمدة من تفويض الشعب له. وهو خادم للشعب وليس سيدا له .وإذا لم يتوافق الطرفان يذهب الخادم ويبقى الشعب. أما في البلاد العربية فيذهب الشعب إلى الهلاك، ويبقى الحاكم. فبينما يتصاعد التدمير والقتل في كل مكان في سوريا،وقد تشّرد أكثر من 50% من الشعب السوري بين نازح ولاجئ،يؤكد الرئيس السوري على شرعيته لفوزه في الانتخابات بنسبة 90% .أما الفشل والضحايا بمئات الآلاف،و دمار الدولة ، و المأساة الإنسانية و الوطنية ،فذلك ليس مهما.
وفي 14/10/1997 صدر الحكم على الابن الثاني للرئيس الكوري «يانغ سام» بالسجن (3) سنوات وغرامة 1.5 مليون دولار بتهمة الفساد والرشوة.
وفي عام 2014 تستغل ابنة رئيس الخطوط الجوية الكورية منصب والدها، فتسيء إلى مضيفة وتتسب في طردها. وعندما يصل الخبر إلى والدها يخرج بصحبة ابنته إلى احد ميادين العاصمة، ويعتذر علنا للمواطنين،ويأسف انه لم يحسن تربية ابنته، ويطلب منهم الصفح عنها وعنه.
يقع ذلك لأن الرئيس «هناك»، يشعر بالمسؤولية تجاه المؤسسة التي يعمل بها ،والدولة التي ينتسب اليها ،والمواطنين الذين منحوه الثقة . وهومستعد بجرأة للاعتراف بالخطأ علنا ،حتى لو كان في أبنائه. فذلك جزء من التربية والممارسة والثقافة الوطنية التي تجعل الاعتراف بالخطأ وتصحيحه ،شجاعة و واجب و شرف وطني ،وجزء من بناء المواطن والدولة. لا كما هو الحال في المنطقة العربية حيث لن يظفر المواطن باعتراف المسؤول بالخطأ حتى لو أفلست الشركة التي يرأسها ،أو تحطمت الدولة التي يديرها. فالعرب تسود لديهم ثقافة «الانكار»، ويغمرهم اعلام» النفي»، وتزيغ عقولهم تربية «غياب الأخطاء» .
وفي منتصف حزيران 2016، سحب مجلس مدينة طوكيو الثقة من «يويشي ماسوزه»، حاكم طوكيو ،لإنه اساء التصرف بأموال المدينة ، فأنفق الكثير منها على رحلات خارج اليابان، ليقيم في فنادق فخمة ،ويشتري اعمالا فنية باذخة ،و يستخدم سيارته الرسمية في عطلة نهاية الاسبوع ليذهب إلى بيته الريفي. فسارع العمدة إلى تقديم استقالته.
يقع ذلك هناك لإدراكهم أن الدول لا تستقر ولا تزدهر الا حين يكون الحرص على المال العام جزءً من الممارسة التلقائية على كل مستوى ،و تكون المساءلة والشفافية في أفضل صورها. ففي الدول الديموقراطية لا حصانة لأحد لتخفي فساده وعيوب تصرفاته. و هذه السلوكيات أصبحت جزء اصيلا من الثقافة و الديمقراطية والأخلاق والتربية و الإعلام،و تغلغلت في ضمائر مواطنيها وممارسة قادتها .و في الأقطار العربية يتحدث المواطنون و التقارير عن عشرات مليارات الدولارات سنويا تبتلعها آلات الفساد.
في 23/6/2016 صوت البريطانيون للانسحاب من الاتحاد الاوروبي بنسبة 52% وصوت للبقاء في الاتحاد 48% .وفور اعلان النتائج اعلن ديفيد كاميرون رئيس الوزراء «بكل ثقة و كبرياء» استقالته و «أعلن بأن البلاد بحاجة إلى قيادة جديدة»، دون ان يطلب أحد منه ذلك. فالأهم في بناء الدولة وفي التربية والممارسة الديمقراطية لديهم ، ليس التكالب على المنصب، والتحايل للخروج من الأزمة ،و ترحيلها، و إنما مصلحة الوطن، والتوافق مع إرادة الشعب. هل يمكن أن نتخيل مسؤولا عربيا يقول من تلقاء نفسه و بمحض اختياره:ان البلاد بحاجة إلى قيادة جديدة؟ عاشر المستحيلات.
لماذا يتصرف الناس من امريكا إلى أوروبا إلى الشرق الأقصى بهذه المفاهيم الحضارية الإنسانية حيث المساواة و المواطنة و القانون، والشعور بالمسؤولية، وشجاعة الاعتراف بالخطأ، والتخلص من الماضي و الأحقاد، والانسحاب عند الضرورة؟ بينما يصر العربي رغم فشله على التكالب على السلطة والمال و أنه الأوحد؟ حتى لو كان على أكوام من الجماجم ؟ إن أدلة (مؤشرات) الديموقراطية و الشفافية و الحاكمية الجيدة و النزاهة و المشاركة و سيادة القانون و التعليم و المعرفة، جميعها، أقل من 50% في معظم الأقطار العربية ،و ما لم تتبلور إرادة جماعية ،رسمية و نخبوية و شعبية، للنهوض و التقدم و بناء دول حديثة تقوم على المؤسسية و المواطنة و القانون و العلم و التصنيع، و تدعمها ،بالممارسة لا بالقول ،إنطلاقة اخلاقية وسياسية و تربوية وثقافية و نفسية جديدة،فإن المستقبل العربي سوف يحمل الكثير من المفاجآت المؤلمة.