لا أعتقد أنه بقي غير عدد جد قليل من السوريين من لم يتصل بأجانب، أو من لم يتصل به أجانب. صار السوريون، في معظهم، كائنات دولية تتخطى اهتماماتها ومواقفها هموم بلدها الصغيرة إلى معضلات العالم الكبرى التي تعتقد أنها لن تحلّ من دون جهودها، وأن لقاءاتها مع المسؤولين الأجانب تتم بقصد توجيههم ومساعدتهم على اتخاذ قراراتٍ استراتيجية صائبة. أو للإشراف على تنفيذها، يستوى في ذلك إن كان السوري صاحب خبرة حزبية، أو من الذين “هوبروا” حتى بعد الثورة لمخابرات “أسدهم الأبدي”، أو انهمك، بعد الثورة، في اختلاق تاريخ شخصي، ثوري ومجيد، ينظف به ماضيه و”يبردخه” بمفعول رجعي، مستفيداً من الكلامولوجيا الشعبوية السائدة التي تلعب دوراً إرهابياً، يقوم على تخوين دعاة الواقعية كطريقة في فهم الأمور والعقلانية سبيلاً لمعالجتها، وعدداً كبيراً من الذين قاوموا الأسدية وعرفوا سجونها، ثم غمرهم ديماغوجيوها الفطريون بثورجيّةٍ جعلت منهم مستحاثاتٍ فات زمانها، يجب شطبها من ذاكرة الشعب، بالطرق التي طالما تعلمها الثورجيون الحاليون من ثورجيّة نظام البعث، إبّان فترة خنوعهم له.
كيف نفسر، من دون أوهام هذا النمط الواسع الانتشار من الثورجيين، إسداء الذين غرقوا من ممثليه، وأغرقوا الثورة في شبر ماء، النصح طوال الأعوام المنصرمة للأميركيين هنا، وللروس هناك، حول أفضل سبل تلبية مصالحهم، ووضع سورية وثورتها في جيوبهم، وتصحيح ما قد ينشأ من سوء تفاهم بين واشنطن والثورة السورية، قد يضعف ما بينهما من وحدة. والحل إن عدداً كبيراً من معارضي الخارج لم يتوقف إلى اليوم عن تقديم النصح للأميركيين حول أفضل سياسات تخدم مصالحهم، في بلادنا وكل مكان، ولم يصدّق أنهم ليسوا أوفى أصدقاء قضيتهم، وأنه لا يقلق نومهم إن بقي النظام والأسد في السلطة، ولا يدافعون، بالأفعال والأقوال، عن حق كل سورية وسوري في الحرية والكرامة. في المقابل، يعتقد عدد كبير من معارضي الداخل أن الاتحاد السوفييتي لم يسقط، كل ما في الأمر أنه غيّر اسمه وحسب، وأن بوتين هو لينين زماننا الذي علينا الثقة به والسير في ركابه، مهما ناقضت أقواله وأفعاله آمالنا، إن كنا نريد لنضالنا ضد بشار الأسد أن يحقّق نتيجةً ما.
في “كليلة ودمنة” قصة عن طائر لقلق نصح حمامة ألا تلقي فراخها إلى الثعلب الذي يهدّدها، كل صباح، بصعود الشجرة والتهام فراخها، إن رفضت إلقاء واحدٍ منهم إليه. قال الطائر للحمامة: لا يستطيع الثعلب بلوغ عشّك في أعلى الشجرة، فلا تلقي بفراخك إليه. بسؤالها، قالت الحمامة: إن طائر اللقلق هو الذي أعلمها بعجزه عن ارتقاء الأشجار. بحث الثعلب عن الطائر. عندما وجده، امتدح جماله، وأبدى إعجابه بضخامة جناحيه، وسأله أين يضع عنقه الطويل، حين تهب عليه العواصف من جميع الجهات. أجاب الطائر المنتشي بالإطراء: أضعه بين ساقي. طلب الثعلب منه أن يريه كيف يفعل ذلك، وحين طوى عنقه وأخفى رأسه بين ساقيه، انقضّ الثعلب عليه، وأمسك به، وهو يقول له: يا غبي، ترى الرأي لسواك، ولا تراه لنفسك.
تلك كانت نهاية لقلقٍ غبي أسكره المديح الكاذب، فمتى تكون نهاية لقالق معارضتنا الذين يرون الرأي لأميركا وروسيا، ولا يرونه لشعبهم، ويقدمون النصح لمن لا يحتاج إلى نصحهم، بينما يرتكبون أخطاء كارثية تضرّ بشعبهم ووطنهم. وكما كانت الحمامة تلقي بفراخها إلى الثعلب الماكر، يلقون هم مواطنيهم إلى أعداء يستمتعون برؤيتهم وهم يتخبطون في مأزقهم، أو يقتلونهم، أو إلى غزاة احتلوا بلادهم، وحوّلوها إلى مكانٍ تسرح فيه ضوارٍ من شتى الأصناف والدول، تشارك الأسد في نهش لحم شعبهم ولعق دمائه.
يا لقالق المعارضة: متى ترون الرأي لشعبكم، ولا ترونه لأعدائه وخصومه؟