استطاعت إيران خلال الأعوام الأخيرة، لاسيما منذ احتلال العراق العام 2003، بناء نفوذ إقليمي غير مسبوق خلال القرون الأخيرة؛ فاستثمرت في انهيار النظام الإقليمي العربي، والتحولات في الاستراتيجيات الغربية التي بدأت منذ 11 أيلول (سبتمبر) 2001، ووصلت ذروتها مع الاتفاقية النووية والتسريبات الخاصة بمواقف الرئيس الأميركي باراك أوباما تجاه المنطقة، وهي مواقف تميل إلى التصالح مع إيران بأقل تقدير.
في العراق، الكلمة العليا في النظام السياسي الجديد هي لإيران. وفي سورية لا يختلف الأمر كثيراً؛ إذ يتقاسم الإيرانيون النفوذ والقرار مع الروس، لكن النفوذ الإيراني أعمق على الأرض، ومشتبك مع تفاصيل سياسية واجتماعية ودينية.
وفي لبنان، يمسك الإيرانيون أيضا اليوم بمفاصل القوة الحقيقية، ويدعمون الحوثيين الذين باتوا يسيطرون على جزء كبير من اليمن الشمالي. وحتى في داخل النظام الإقليمي العربي، فإنّ محاولات حصار إيران تتفكك وتتآكل مع وجود خلافات ضمنية غير معلنة بين الدول المعنية.
لكن إلى أيّ مدى هذا النفوذ مستدام ومستقر؟ وهل يخدم إيران، وحتى الشيعة العرب، في نهاية اليوم؟!
الإجابة عن هذا السؤال ترتبط بنمط القوة الإقليمية الإيرانية الحالية وروافعها؛ فهي تقوم على توظيف الورقة الشيعية لتخدم الأهداف القومية الإيرانية. لكن حتى هذه الأهداف نفسها تلبّست بالبعد الديني-الطائفي، فأصبح التمييز بين السياسي والطائفي مسألة شائكة ومعقدة، ما جعل المسألة الشيعية تدخل في صميم تعريف مصالح إيران في المنطقة العربية.
هذا التصوّر لدور إيراني داعم أو راعٍ للشيعة العرب يمكن أن يكون مفهوماً، لكن معضلة إيران تتجاوز ذلك إلى عملية فرض مواقفها ورؤيتها على الشيعة أنفسهم، كما هي الحال في جميع الدول التي تقع تحت الهيمة الإيرانية. في العراق، هناك تململ في أوساط شيعية واسعة من الهيمنة الإيرانية. وفي سورية، هناك شعور لدى نسبة كبيرة من الطائفة العلوية بفرض “ولاية الفقيه” والمفاهيم الإيرانية على الطائفة ذات النزعة العلمانية. وفي لبنان، يدفع حزب الله ثمناً باهظاً، بشرياً وداخلياً، جراء توغّله في الداخل السوري.
صحيح أنّ انفكاك الشيعة العرب عن السطوة الإيرانية مستبعد تماماً اليوم، لأنّهم تورّطوا في الصراعات الدموية والسياسية بصورة كبيرة، وتمثل إيران لهم عمقاً استراتيجياً، فضلاً عن اشتباك وتعقد المصالح وتداخلها بين الطرفين. لكنّ هذا النموذج من العلاقة يولّد صراعاً مكبوتاً ومكتوماً بينهم وبين إيران، ويجعل من هذه العلاقة مع مرور الوقت أشبه بزواج الإكراه، وأقرب إلى الهيمنة الخارجية.
المشكلة الأخرى تقع في أنّ هذه القوة تقوم على مفهوم الصراع مع المحيط السنّي العربي عموماً، وعزل الشيعة عن الدائرة العروبية بصورة غير مباشرة وإلحاقهم بالعباءة الفارسية. وهذا يخلق مشكلة داخل المجتمع الشيعي العربي نفسه أولاً، ويؤدي -ثانياً- إلى حرب استنزاف داخلية مستمرة، لن يكون فيها منتصر على المدى البعيد، ويمثّل فيها الشيعة الأقلية، حتى لو كانت إيران ترجّح كفّتهم اليوم.
هذه المعادلات هي التي أنتجت سياسات التطهير الطائفية الإيرانية في العراق وسورية، ودفعت بإيران إلى محاولة خلق كيانات شيعية على أنقاض الدول العربية، وترسيم خطوط تدخلها بما يخدم الخريطة الطائفية، كما هي الحال في مفهوم “سورية المفيدة” أو في “دمشق الكبرى”، ويمكن إضافة مفهوم “بغداد الكبرى” أيضاً إلى التصورات الإيرانية!
في المقابل، خسرت إيران قوتها الناعمة في المنطقة العربية، وأقحمت الشيعة في صراعات قاتلة، وزجت بنفسها في المنطقة في حرب استنزاف طويلة ومعقدة.
بالطبع، لا تتحمل إيران المسؤولية وحدها. فنحن العرب المسؤول قبلها؛ أولاً بضعفنا، وثانياً برفض سياسة الحوار مسبقاً معها، وثالثاً بتعاملنا مع المواطنين الشيعة.