القوات العراقية تدخل الفلّوجة، تطرد تنظيم «داعش» من حيّ تلو آخر. حيدر العبادي يقول: اخرجوا واحتفلوا… نعم، كان يجب أن يستحقّ الأمر احتفالاً بخسارة الإرهابيين واحداً آخر من معاقلهم، لولا عشرات السقطات والانتهاكات التي رافقت المعركة طارحةً عشرات الأسئلة لعل أبسطها/ أخطرها: «داعش» هُزم لكن مَن انتصر، إيران أم العراق، أهو الجيش العراقي أم ميليشيات «الحشد الشعبي»، أهو عراق قاسم سليماني أم عراق العبادي، وهل من تمايز حقيقي بينهما؟ وإذا سئل العبادي فإنه لن يستطيع أن يشرح بشفافية أين موقع الجيش الحكومي على الخريطة، وما الفارق بين هذا الجيش والميليشيات، ومَن هم الذين يدعوهم إلى الاحتفال: أهم العراقيون جميعاً سنّة وشيعة كما يُفتَرض، أم الشيعة وحدهم كما يُظهر المزاج الدعائي العام؟
في السياق نفسه، عُهدت إلى «قوات سورية الديموقراطية» مهمة اقتلاع «داعش» من شمال شرقي سورية. وكلما تقدّمت هذه القوات لتدخل منبج وتضرب الخط الأمامي الذي أقامه التنظيم دفاعاً عن الرقّة، كلما سهل القول إن أكراد «حزب الاتحاد الديموقراطي» هم الذين يخوضون المعارك، وهؤلاء يجدون أن قتالهم من أجل أراضٍ يجعلها من «حقّهم» ويوسّع إقليمهم، وبالتالي فإن من شأنهم تكريد أسماء المناطق «المحرّرة» – كما لو أنها مقفرة وغير مأهولة منذ زمن – وضمّها إلى «فيديراليتهم»/ إقليمهم، في ظلّ انتفاء جهة ذات شرعية مخوّلة تسلّمها منهم. عدا أن هذا النهج يكرّر مسلك العصابات الإسرائيلية في فلسطين حتى في تفاصيله، فإنه يجعل «تحرير الرقّة» أقرب إلى عقلية «داعش» حين اعتقد أنه يستعيد عصر الفتوحات الإسلامية.
الخلاص من «داعش» وحرمانه من مناطق سيطرة يتحكّم بأهلها ومواردها وتراثها ومستقبلها، وبالتالي القضاء عليه… تلك أهداف لا ينقضها أي عاقل، ولا تحتمل الجدل أو أنصاف الحلول. لكن هل هي فعلاً أهداف الولايات المتحدة وروسيا وإيران، وهل لديها مصلحة في تحقيقها، وطالما أنها منخرطة في هذه المعمعة فهل تعمل حالياً على إنهاء هذه الحال الإرهابية إلى غير رجعة؟ لا الدرس الأفغاني أفاد الروس ثم الأميركيين بعدهم، ولا الدرس العراقي علّم الأميركيين شيئاً آخر غير كذبة «التدخّل بعدم التدخّل» إلى حد تعمّد العمى، تجنّباً لرؤية الدور الإيراني، ليس فقط بالتدخّل الذي أصبح الآن بالغ الفجور والعلنية، بل خصوصاً في تصنيع تلك الحال الإرهابية التي يدّعي المتدخلون أنهم إنما جاؤوا لتخليص العالم من شرورها.
لكنهم يعتمدون جميعاً على ميليشيات لا فارق بين تعصّباتها ولا بين ارتباطاتها أو أجنداتها. ردّد الروس والأميركيون دائماً أن أساس «تفاهماتهم» الحفاظ على الدولة والمؤسسات في سورية، لكنهم عجزوا عن أي «تفاهم» في الوقت المناسب، أي عندما كان ذلك ممكناً قبل أربعة أو حتى ثلاثة أعوام. والأخطر أن الروس والأميركيين تغاضوا عن النظام السوري وحلفائه الإيرانيين حين راحوا يجهّزون البيئة لاجتذاب الإرهابيين، بل كانوا يحذّرون جميعاً من تفشّي الإرهاب، لكنهم فعلوا كل ما يلزم لتسهيل استشرائه. كانت الطرق أمام الدواعش تُفتح تحت كل الأنظار، وتسهيلات دخولهم الرقّة ومركزها الحكومي تتم بعلم الجميع، والتنسيق بين «داعش» وأكراد «الاتحاد الديموقراطي» أو حل خلافاتهم ووقف اشتباكاتهم تتولاها أجهزة نظامي دمشق وطهران وبعلم من استخباريي موسكو وواشنطن… كل ذلك معروف على رغم استمرار التعتيم الإعلامي عليه، فمَن يصدّق أن هذه الأطراف باتت تريد محاربة الإرهاب ما دامت مسؤوليتها عن وقوع المحظور ثابتة ومؤكّدة؟
كان يمكن للأداء أن يكون أفضل في العراق، مع كل التحفّظ ومن دون أوهام، فللمرء أن يتساذج فيقول إن هناك حكومة، لئلا نقول دولة وأن هناك جيشاً، وأن الاميركيين أسياد الجو في العراق (كما هم الروس في سورية) أعلنوا مراراً أنهم لا ينسّقون مع الإيرانيين ولا يدعمون معارك تخوضها أو تشارك فيها ميليشيات منفلتة، خصوصاً أن سوابق ديالى وتكريت برهنت أن عصابات الطائفيين الموتورين متشبّعة بعقيدة لا تختلف عن تلك «الداعشية» إلا في بعض التفاصيل. غير أن الوقائع بيّنت أن «عدم التنسيق» عنى أن يقوم الأميركيون بما يناسبهم، كذلك الإيرانيون وميليشياتهم، حتى لو أدّى ذلك إلى تشويه الأهداف المتوخاة من عملية «التحرير». وفي حال الفلّوجة كان ينبغي التحوّط لـ «الثأرية» التي ضاعفت هوس زعماء الميليشيات وجاءت بقاسم سليماني وتوصيات المرشد، فهؤلاء يعتقدون أنهم أجادوا إدارة الدولة في العراق وأن هذه المدينة هي التي أفشلت تجربتهم، ولذلك أرادوا الانتقام من سكانها.
لكن، أي رسائل بُعثت وتُبعث من خلال عمليات «التحرير»، وهل تختلف إذا كان «داعش» مرسلها أو أي طرف آخر؟ أولى الرسائل أن مصير المدن هو الدمار، والثانية أن مآل أهلها المهانة، وثالثتها أن مَن يحرّرها ويحرّرهم هم الذين تسبّبوا أصلاً بوجود «داعش» واستفادوا من دخوله في الذهاب ويستفيدون من إخراجه في الإياب. ولا شك في أن نموذج «تحرير» الفلوجة كان صارخ الشذوذات واللاانسانية. أكثر من ثمانين في المئة من أهلها خرجوا بعد سيطرة «داعش» عليها، وشارف من بقوا فيها على المجاعة منذ شهور طويلة، ومع اندلاع المعركة لم يتوقّع أحد أن يُستقبل الهاربون منها بالترحيب والحفاوة الأخويين، لكن ما لم يبدُ مفهوماً بأيّ معيار أخلاقي أن تمتنع الحكومة ومنظمات الأمم المتحدة عن توفير أبسط الإغاثات المتوقّعة وأن تمنع الميليشيات هيئات عراقية محلّية من تقديم أي مساعدة. تُرك المسنّون والنساء والأطفال أياماً في العراء من دون غذاء أو ماء أو دواء أو اسعافات. أما الرجال فاقتيدوا إلى معسكرات اعتقال ليصبح مئات منهم في عداد «المفقودين» ويُعرَّض مئات آخرون للتعذيب والسحل والتنكيل ويُجبَروا على ترديد شعارات «شيعية» من قبيل تحقيرهم، وأن يتعمّد جلادوهم/ «مواطنوهم» المفترضون تصوير كل ذلك وتعميمه… فهذه هي الرسالة التي أرادها الإيرانيون أن تصل أبعد من الفلوجة وأهلها، ومن خلالها يقولون مع نوري المالكي وهادي العامري وقيس الخزعلي وأوس الخزاعي وغيرهم من أتباع إيران ومجرميها أن لا عيش ولا تعايش مع سنّة العراق بعد اليوم. «داعش» لم يكن سوى الوسيلة والذريعة.
يُقال الكثير الآن عن أن تحرير الموصل، وربما منبج والرقّة، سيكون «نموذجاً» في مراعاة المدنيين، فهل سيُعتمد على الذين ظهروا بزيّ عسكري وهم ينكّلون بالفلوجيين أم على الأكراد الذين نظّموا عراضة الجثث في عفرين السورية. لم يبالغ بعض المحللين إذ تحدّث عن محنة السكان بين جحيم «داعش» وجحيم محرِّريهم منه. فهذا «تحرير» يتحوّل في مجرياته مصنعاً لإعادة إنتاج الإرهاب، فلا الحملة الجويّة بدت مجدية في المدى المنظور ولا الحملة البرّية تبدو أكثر فاعلية في المدى البعيد. قد يساهم كلاهما في ضرب «داعش» وإخراجه من المدن، لكن ما يرافقهما من ممارسات يأتي بنتائج عكسية، ويكفي التفكير في اتجاهات ثلاثة لتقدير الموقف:
أولاً بالجيل الذي ينطبع وعيه بالمهانة التي يتعرّض لها مع أهله وبـ «لعبة العنف» الوحيدة المتاحة أمامه. وثانياً بالصراعات المذهبية (سنّة – شيعة) أو القومية (عرب – كرد) التي باتت محاربة الإرهاب منفذها لتحديد المنتصر والمهزوم بغضّ النظر عن مدى إرهابية هذا الطرف ووحشية ذاك.
وثالثاً بالنتائج السياسية الآخذة في الارتسام، وفقاً لأجندات القوى الدولية وأهوائها، سواء بالظروف التي يوفّرها الأميركيون والروس لإيران كي تقطف ثمار سياساتها العدوانية والتخريبية في العالم العربي وحتى بمكافأتها بمحاربة إرهاب صنعته ورعته، أو بالتغييرات الجغرافية التي يستعدون لبنائها على إحباطات تاريخية عربية إضافية لمعالجة إجحاف تاريخي عومل به الأكراد قبل مئة عام وجعلهم اليوم أول المطالبين بتقسيم العراق وسورية.