عروبة الإخباري – أوضح سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام لسلطنة عمان في محاضرته التي جاءت تحت عنوان: «كيف نستقبل شهر رمضان» أن الصيام مدرسة أخلاقية يتكيف فيها الإنسان وفق الأخلاق الفاضلة ،وأن الغاية من مشروعيته هي التقوى، مشيرا إلى أن الصيام الشرعي هو الذي تكف فيه النفس عن كل المعاصي الظاهرة والباطنة وليس هو مجرد الكف عن الأكل والشرب وقضاء الوطر الجنسي فحسب. وأن الذي يتجرأ على الغيبة والنميمة والكذب أو لمز الناس وهمزهم لا قيمة لصيامه عند الله تعالى.
وأكد سماحته أن من عوّد نفسه أن يضبط لسانه وسمعه وبصره وسائر جوارحه عن الوقوع في معاصي الله خلال هذا الشهر الفضيل يهون عليه في سائر العام أن يضبط نفسه ويقيد جوارحه ويكيف تصرفاته وأعماله وفق منهج الله تعالى فلا يقع في شيء من محارم الله.. فإلى نص هذه المحاضرة القيّمة..
استهل سماحته هذه المحاضرة القيّمة بقوله : أهنئكم باستقبالكم هذا الموسم العظيم موسم الرحمة والعبادة والبر والتقوى باستقبالكم شهر رمضان المبارك، الذي انزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، ولا ريب أن المؤمن وهو يستقبل هذا الشهر الفضيل لتشف نفسه ويرهف حسه ويحس انه أمام عتبة من عتبات الأيام المقدسة التي جعل الله سبحانه وتعالى فيها صلة العبد بربه تتمتن وتقوى. وان الإنسان ليجدر به وهو يستقبل هذه المناسبة الطيبة العظيمة أن يحرص كل الحرص على محاسبة النفس أولا، ذلك لأن هذه العبادات الدورية التي تتكرر بتكرر مواسمها، إنما جعلها الله سبحانه وتعالى كذلك لتكون فيها مواقف يقفها العبد، من أجل النظر فيما قدّم وفيما أخر، ذلك لأنها في كل وقت تتكرر فيه يكون الإنسان قضّى مرحلة من مراحل العمر، هذه المرحلة لا يمكن أن تعود، فالإنسان وان كان في حقيقته في كل لحظة من اللحظات يتقدم إلى الأمام في عمره ولا يمكن لهذه اللحظة أن تعود إليه، وكل نفس يتنفسه إنما هو خطوة من خطواته إلى لقاء ربه سبحانه، إلا انه باجتماع جزء من الزمن كالعام والشهر أو حتى اليوم يكون الإنسان حريا أن يقف وقفة مع النفس لمحاسبتها على ما قدمت وأخرت.
وأضاف: لا ريب أن الله سبحانه وتعالى، فضّل هذا الشهر الفضيل، الشهر الذي تستقبلونه بما جعل فيه من خير عميم، فالله تعالى جعله ميقاتا لحدث تاريخي عظيم حوّل الطبيعة الكونية من وضع إلى وضع آخر، وجعل الإنسان الذي هو قطب في هذا الكون تدور عليه رحاه أيضا يتحول تحولا عجيبا، ذلك لأن هذا الحدث كان سببا لصلة الإنسان بربه، وللربط بين المسير والمصير والدنيا والآخرة والعمل والجزاء، فجدير بالإنسان يقف مع هذا الحدث وهو نزول القرآن الكريم على قلب النبي صلوات الله وسلامه عليه في هذا الشهر المبارك فان الله سبحانه وتعالى إنما جعل هذا الشهر ميقاتا لهذا الحدث التاريخي العظيم الذي بدد وضع هذه الحياة وقلب موازين البشر فيها وجعل الحق سبحانه وتعالى هذا الحدث سببا لأن يكون الإنسان على بصيرة من أمره اذ يستشف من خلال هذا الحدث حقيقة طبيعة هذه الحياة فهو يطلع من خلاله على نواميسها وسننها ويعرف حل لغزها اذ الحياة كانت بأسرها لغزا معمى قبل أن يكون هذا الحدث، فإذن على الإنسان أن يقف وقفة طويلة مع هذا الأمر.
وقال سماحته: لقد امتن الله سبحانه وتعالى بهذا الحدث العظيم عندما قال: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)، هذه النعمة العظيمة إنما امتنها لأجل أن يتدبر الناس القرآن، اذ القرآن لم ينزل من أجل أن يتسلّى به في المحافل والمجامع بحيث يتلى بأشجى الألحان وتفتتح به وتختتم جلسات الناس في مؤتمراتهم وندواتهم ولقاءاتهم وإنما انزل ليتكيف الإنسان معه عقيدة وعملا، فعلا وتركا، قولا وخلقا، حتى يكون كل مؤمن بالله واليوم الأخر صورة حية من هداية القرآن الكريم، والله سبحانه وتعالى بيّن عظم هذه النعمة، اذ بيّن أن هذا القرآن هدى للناس، يقول الله سبحانه وتعالى في وصفه: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) ويقول: (هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ)، ويقول: (وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)، ويقول: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا)، ويبين سبحانه وتعالى ضرورة ارتباط الإنسان بالقرآن الكريم، اذ يقول سبحانه: (وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا، مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا، خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا)، ويقول سبحانه وتعالى في جوانب من يسأل يوم القيامة عن سبب حشره أعمى وقد أوتي من قبل هذا الذكر العظيم فأعرض عنه: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) يذكر تساؤل الإنسان: (قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى)، فإذن من الضرورة بمكان أن يعرف الإنسان الالتزام بالقرآن الكريم، هذا القرآن الذي كما قلنا حلّ لغز هذه الحياة وبيّن مبدأ الإنسان ومصيره ومسيره، وماذا عليه أن يعمل في هذا المسير الذي هو بين المبدأ والمصير، فإذن جدير بالإنسان أن يستمسك بهذا القرآن أن يعظ على هدايته بالنواجذ وأن لا يفرّط في أي جزئية من جزئياته فضلا عن الكليات التي جاء بها.
وأشار إلى أن النبي الكريم عليه افضل الصلاة وأزكى التسليم يبين لنا أن القرآن هو ملجأ الإنسان الذي يفر من كوارث الدهر ونوائب الزمن وفتن الحياة عندما يقول عليه الصلاة والسلام: «ستكون فتن كقطع الليل المظلم، وقيل له: وما المخلص منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين ونوره المبين والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تتشعب معه الآراء، ولا يشبع من العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، وهو الذي لم تنته الجن اذ سمعته أن قالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا، من قال قوله صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن اعتصم به فقد هدي إلى صراط مستقيم»، هذا هو شأن القرآن الكريم، وهذا القرآن يبين لنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم الارتباط بين الامتنان بنزوله ومشروعية هذه العبادة التي خص بها الشهر الذي أنزل فيه القرآن، وذلك أن الله سبحانه وتعالى جمع بين هذا الامتنان بين مشروعية هذا الحكم بالفاء التي تقتضي ربط ما بعدها بما قبلها، وذلك عندما قال: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) حيث قال بعد الامتنان: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) فربط بين الأمر بصيام هذا الشهر المبارك وبين الامتنان السابق في الآية بإنزال القرآن فيه وذلك لأن هذه العبادة المقدسة التي شرعت في هذا الشهرالمبارك هي التي تتلاءم مع هداية القرآن وتتلاءم مع جو القرآن الإيماني، فالله سبحانه وتعالى شرع صيام هذا الشهر وكتبه على هذه الأمة كما كتب هذا الصيام على الأمم السابقة من أجل أن تحافظ هذه الأمة على رسالة القرآن بحيث تقوم بواجبها تلتزم السير في نهجها وتبلغ هذه الرسالة إلى الأمم وتورثها الأجيال القادمة جيلا بعد جيل.
وأضاف: وكيف يكون هذا الارتباط بين هذا الامتنان بنزول الكتاب الكريم في هذا الشهر العظيم وبين مشروعية صيام هذا الشهر؟ لا ريب أن كل عبادة من العبادات التي شرعت في الإسلام لها تأثير كبير في تقويم سلوك الإنسان، وإعداده لطاعة الله سبحانه وتعالى، وتكييف حياته وفق مقتضيات أمر الله ونهيه حتى يكون الإنسان صورة تجسد الهداية التي انزلها الله سبحانه وتعالى على رسله، فنحن نرى أن الحق سبحانه وتعالى في كتابه العزيز يبين أن الغاية من العبادة التي فرضها على عباده هي التقوى، اذ يقول عز من قائل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، فقد خاطب الناس جميعا بأن يعبدوه لأن هذه هي الغاية من خلق الإنسان، فالله تعالى يقول: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) وهذه العبادة هي تؤدي إلى التقوى بحيث يلتزم الإنسان السير في نهج الله تعالى، فالتقوى في الحقيقة هي وعاء شامل لكل خير، وينتفي عن جانبه كل شر، فكل عمل خيري يعد من تقوى الله سبحانه وتعالى.
وأوضح ان وصف الله سبحانه وتعالى للمتقين يدل على الالتزام التام بمنهج الله وعدم العدول عن هذا المنهج بأي حال من الأحوال، فكم وصف الله تعالى المتقين في كتابه، فالله تعالى يبشر عباده الذي اتقوا بالجنة ثم يصف هؤلاء المتقين بما هم متصفون به من الأعمال التي يمارسونها وكيف يجتنبون أيضا أضداد تلك الأعمال، فالله تعالى يقول: (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ، الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ)، أي هؤلاء هم المتقون الذين وعدهم الله تعالى الجنة. ويقول سبحانه: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)، فالله تعالى يحصر المتقين في هذا الصنف من الناس. وكذلك في معرض التبشير بالجنة يبين الله سبحانه وتعالى عظم هذه الجنة التي يعدها عباده ويبين أنها للمتقين، فالله سبحانه وتعالى يقول: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) فمعنى ذلك أن هذه الجنة أعدت لهؤلاء الذين يسارعوا إلى طاعة الله، بحيث لو بدرت من احدهم بادرة السوء أو وسوس له الشيطان فوقع في عمل محظور سارع إلى التوبة والتخلص من تبعة هذا الأمر الذي وقع فيه، فالله تعالى يصف المتقين بأن بمجرد ما يوسوس لهم الشيطان يستيقظون من نومهم وينتبهون من غفلتهم ويعودون إلى رشدهم حيث يقول سبحانه: (الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) هذه هي صفة المتقين فهم إنما يتقون بسبب حرصهم على عبادة الله سبحانه وتعالى، هذه العبادة جاءت مغيّاة بالتقوى ومعللة بالتقوى جاءت في قوله تعالى: (أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) و»لعل» هنا على القول الراجح للتعليل وليست للرجاء اذ الله تعالى لا تخفى عليه خافية فهو يعلم كل ما يقع وليس من شأنه الرجاء، أنما الرجاء من شأن الخلق. فعندما أمر الله سبحانه وتعالى عباده بالصيام جعل الغاية من هذا الصيام التقوى، كما أن الغاية من سائر العبادات جميعا التقوى.
وأضاف: كيف يثمر الصيام تقوى الله سبحانه وتعالى؟ أجاب سماحته بالقول: لا ريب أن الصيام فيه ترويض للنفس على طاعة الله واجتناب معاصيه والمسارعة إلى ما فيه رضوانه وفيه ايقاظ لهذه النفس نومها وتنبيه لها من غفلتها فكم للصيام من اثر في حياة الإنسان النفسية والاجتماعية وكم للصيام من اثر في تقويم الإنسان معتقدا وسلوكا، فالصيام الشرعي الذي شرعه الله سبحانه وتعالى والذي يؤدي إلى رضوانه إنما هو الصيام الذي تكف فيه النفس عن كل المعاصي الظاهرة والباطنة وليس هو مجرد الكف عن الأكل والشرب وقضاء الوطر الجنسي فحسب فان صياما من هذا النوع إنما هو صيام العامة وليس صيام الخاصة البررة، فالخاصة البررة لهم صيام خاص وهو الذي شرعه الله تعالى فيه محاسبة للنفس وفيه ضبط لها، وفيه كفكفة لجميع الجوارح من الوقوع في أي معصية من معاصي الله، فلذلك جعل الله سبحانه وتعالى الغاية من مشروعية الصوم التقوى. وبين هذا كثير من الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فان الرسول عليه وعلى آله وصحبه افضل الصلاة والسلام يقول كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام الربيعي رحمه الله من طريق ابن عباس رضي الله عنهما يقول: (لا ايمان لمن لا صلاة له، ولا صلاة لمن لا وضوء له، ولا صوم إلا بالكف عن محارم الله)، فان الصائم لابد من أن يكف عن محارم الله، بل جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام البخاري عن طريق أبي هريرة: (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) ومعنى ذلك أن من كان يطلق للسانه العنان حتى يلغ في أعراض الناس ويقع في محارم الله سبحانه وتعالى فصيامه ليس شأن عند الله، والله غني عن تركه الطعام والشراب، فالذي يتجرأ على الغيبة أو يتجرأ على النميمة أو يتجرأ على الكذب أو يتجرأ على لمز الناس وهمزهم أو يتجرأ على أي قالة سوء كأن يأمر بالفحشاء وينهى عن الحق، فلا ريب أن كل ذلك إنما يدحر صيامه فلا يبقى لصيامه اثر، وكذلك بالنسبة الى بقية الجوارح غير اللسان فالإنسان محاسب على كل جارحة من جوارحه، محاسب على العين كيف ينظر بها، فهو لو اطلق لعينه العنان لتنظر في العورات أو تنظر في المحارم فلا ريب أن صيامه الله تبارك وتعالى غني عنه، كذلك لو أن هذا الصائم يقضي سحابة نهاره وهو يستمع الفحش ويستمع إلى سباب الناس لبعضهم بعض أو يستمع إلى الغيبة، أو النميمة أو يستمع إلى قول الباطل أيا كان، فلا ريب أن صيامه لا قيمة له عند الله سبحانه وتعالى، الله غني عن هذا الصيام فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه كذلك بالنسبة إلى اليد وما تمارسه هذه اليد، كذلك بالنسبة إلى شمه وبالنسبة إلى ذوقه وبالنسبة إلى مشيه كل ذلك مما يحاسب عليه الإنسان.. (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) هذا هو الصيام المشروع فمن تدرب على هذا الصيام وعود نفسه خلال هذا الشهر المبارك أن يضبط لسانه وان يضبط سمعه وبصره واعتاد أن يكف يده وسائر جوارحه عن الوقوع في أي معاصي الله يهون عليه في سائر العام أن يضبط نفسه ويقيد جوارحه ويكيف تصرفاته وأعماله وفق منهج الله تعالى فلا يقع في شيء من محارم الله وبهذا يكون قد احرز التقوى.
اذن الصيام المطلوب هو الصيام الذي تكف فيه النفس عن جميع معاصي الله سبحانه وتعالى وليس هذا بحسب بل الصيام هو اعظم من ذلك فالصيام ينتزع من الإنسان خصالا جبلت عليها نفسه ويحول هذه النفس إلى نفس اخرى فالصيام هو مدرسة أخلاقية يتكيف فيها الإنسان وفق الأخلاق الفاضلة فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الصيام جنة فاذا كان صوم يوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل فان سابه احد أو قاتله فليقل إني صائم). فالصائم هكذا يؤمر لو تعرض لسباب من احد أو لإيذاء نفسي أو جسدي من قبل احد ليس له أن يرد الإساءة بمثلها بل عليه أن يقول: إني صائم، وفي قوله إني صائم تذكير أولا لنفسه بأنه في عبادة مقدسة تتنافى قدسيتها مع التشفي والانتقام فلذلك كان جديرا بالإنسان أن يحرص في صيامه على أن يوطن نفسه لكل ما عسى أن يلقاه من الآخر من قالة السوء أو من عمل السوء فيصر على ذلك ولا يزيد على قوله: إني صائم، وهو بهذا القول أيضا يذكر ذلك الذي صدر منه الأذى إن كان مسلما صائما بأنه في عبادة تتنافى قدسيتها مع ما مصدر عنه وما كان منه إنما هو محبط بهذه العبادة وناقض لها، فعليه أن ينتبه لهذا الأمر ففي هذا دعوة مبطنة لذلك الذي صدرت عنه الإساءة إلى أن يحاسب نفسه على ما صدر منه، وان لم يكن مسلما ذلك الذي صدرت منه الإساءة فيكفي انه يسمع من المسلم كلمة «إني صائم» ويدرك أبعاد هذه الكلمة بحيث يستيقظ على ما في الإسلام من محاسن لا تكاد توجد في أية ملة اخرى.
وأشار إلى أن في الصيام الكثير الكثير من المنافع فهو يعوّد الإنسان على الاستعلاء على شهوات النفس وهو يقوي الإرادة والضمير على الشهوات فالإنسان دائما يكون أسير شهواته ولكن بممارسته هذه العبادة المقدسة يستعلي على هذه الشهوات، مبينا أن كثيرا من الناس خلال شهر رمضان المبارك يحرصون على عمارة بيوت الله سبحانه وتعالى وهذه ظاهرة طيبة ولكن لا يعني هذا الأمر أن يفرطوا في هذا الأمر فيما بعد الشهر الفضيل فالذين يقبلون على بيوت الله في شهر رمضان ويعرضون عنها في بقية الأيام انهم في الحقيقة خاسرون ومضيعون لمكاسب صيامهم ومضيعون لما يثمره هذا الصيام في نفوسهم من تقوى الله سبحانه وتعالى. ولا ريب أن كل احد مطلوب منه أن يعبد الله في أي وقت من الأوقات وإقامة الصلوات في المساجد أمر مطلوب من الإنسان أن يحرص عليه في أي وقت من الأوقات لا في شهر رمضان فحسب على كثير من الناس يحرصون على أن يحضروا قيام رمضان ولا يحرصون على أن يحضروا الفرائض والفرائض هي اهم واقامتها في الجماعات هو أمر واجب فلا يسع الإنسان أن يتخلف عن صلاة الجماعة كما دلت على ذلك الآيات التي تشير الى هذا وصرحت به الأحاديث الصريحة عن النبي عليه أفضل الصلاة والسلام.