اختزل بعضهم شهر رمضان في المسلسلات التلفزيونية التي تتفجر في وجوه المشاهدين خلال الشهر الكريم كل سنة، وتتناثر شظاياها طوال النهار وعلى مدى ساعات الليل. اللافت أن دراما رمضان هذه السنة خلت من مسلسل عن «الإخوان المسلمين»، وإن توزعت بعض المشاهد التي تحاكي سلوك الجماعة ورموزها وأعضاءها على بعض المسلسلات. لكن مسؤولاً مصرياً يبدو كأنه أصر على أن يكون لـ «الإخوان» مسلسل خاص بهم.
فوزير الشؤون القانونية ومجلس النواب محمد مجدي العجاتي أدلى بتصريح عن المصالحة مع «الإخوان» أثار ضجة كبيرة وقلب الناس عليه. وسواء كان تصرف الوزير فردياً ومعبراً عن موقف شخصي، أو كان الرجل مجرد وسيلة أُطلق من خلالها بالون اختبار لقياس ردود فعل الناس على فكرة المصالحة مع الجماعة، فإن النتيجة واحدة، والغضب الذي اجتاح المصريين إلى حد المطالبة بإقالة الوزير باعتباره تجاوز الحدود أو تعدى على حقوق الشهداء وضحايا عنف «الإخوان» وعمليات الإرهاب، كان كاشفاً لحال يحاول «الإخوان» إخفاءها، وتسعى وسائل الإعلام المتحالفة مع الجماعة إلى التغطية عليها، أو الترويج لعكس مضمونها.
الحقيقة الواقعة هي أن الشعب المصري تجاوز مرحلة «الإخوان» وأن أفعال الجماعة وسلوكها وتصرفات قادتها أثناء حكمهم مصر أو بعدها زادت من إصرار الناس على إقصاء الجماعة من المشهد السياسي، بل والمجتمعي أيضاً، وكل ناشط أو سياسي أو حتى مسؤول يلمح إلى مصالحة مع التنظيم لا ينال إلا ردود فعل غاضبة ساخطة ناقمة رافضة.
قصة الوزير العجاتي بدأت بتصريح صحافي قال فيه أن «مشروع قانون العدالة الانتقالية يستهدف أن يعود المجتمع المصري نسيجاً واحداً، ويمكن أن يكون هناك تصالح مع عناصر جماعة الإخوان ممن لم تتلوث أيديهم بالدماء ولم تنسب إليهم أفعال إجرامية». وعلى رغم ردود الفعل الصاخبة والحادة، إلا أن الوزير لم ينف التصريح ولم يسع إلى تفسيره وتخفيف آثاره، ولم يخرج أحد من الدولة ليوضح موقفها من كلامه.
عموماً ومنذ خلع «الإخوان» عن حكم مصر، اعتاد المصريون أن يطل عليهم كل فترة مسلسل المصالحة مع الجماعة، كأن مصر لا تنام لأن «الإخوان» اختلفوا في وجهات النظر مع الشعب المصري في شأن أسلوب الحكم. فالشعب انقلب على الجماعة بعدما أيقن أن «الإخوان» أفسدوا في الحكم وحرقوا وخربوا وروعوا الناس وسعوا إلى إسقاط الدولة. ولا يبدو حتى الآن أن العجاتي سيلقى مصير اثنين آخرين من الوزراء سبقاه وأطيحا بسبب تصريحاتهما المثيرة، أولهما وزير العدل السابق محفوظ صابر الذي قال في حوار تلفزيوني أن ابن عامل النظافة لن يصبح قاضياً «لأن القاضي لا بد من أن يكون قد نشأ في وسط مناسب لهذا العمل». سبّب التصريح غضباً شعبياً واستياءً رسمياً، استقال على إثره صابر بناء على توجيهات من الرئيس عبدالفتاح السيسي. وبعد ذلك كان الدور على خلفه أحمد الزند الذي قال في حوار تلفزيوني رداً على سؤال عن استعداده لحبس صحافيين في خصومة معه: «إن شا الله يكون النبي عليه الصلاة والسلام. أستغفر الله العظيم يا رب». وسبّب هذا التصرف حال استياء لعب على أوتارها «الإخوان» الذين يناصبون الزند عداءً شديداً، فجيشوا كل وسائل إعلامهم لترويج تصريح الزند وتسخين الأجواء ضده، حتى إن الأزهر أصدر بياناً رسمياً انتقد فيه كلام الزند الذي اعتذر، معتبراً أنه «تم تضخيم الأمر لأغراض سياسية». لكنه أقيل بعد أن رفض تقديم استقالته.
المؤكد أن المصادفة وحدها جعلت القضاء المصري يرد على موقف العجاتي الذي كان يتعين عليه الصبر حتى أول من أمس ليسمع منطوق الحكم في قضية متهم فيها الرئيس السابق محمد مرسي وآخرين من قادة «الإخوان» بـ «التخابر لمصلحة قطر»، والتي تضمنت المؤبد لمرسي واثنين آخرين من قادة الجماعة بعدما صادق مفتي مصر على إعدام ستة متهمين في القضية. بعض من فاجأهم كلام الوزير نبهوه إلى أنهم كانوا ينتظرون منه مشروع قانون لتطهير مؤسسات الدولة من «الإخوان»، وليس المصالحة معهم، وآخرون ذكروه بعلاقاته القديمة مع بعض رموز الجماعة والمتحالفين معها، لكن البسطاء من الناس أيدوا دعوته إذا ما أعاد إليهم الشهداء!
بعض مروجي مبادرات المصالحة كالأكاديمي سعد الدين إبراهيم أو مطلقي بالونات الاختبار كالوزير العجاتي يستندون إلى تجربة الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا الذي تصالح، من دون أن يتنبهوا إلى أن الرجل أنهى الفصل العنصري وتصالح مع العنصريين بعد المحاسبة، وأن العنصريين وقفوا أمام «لجنة الحقيقة» وأقروا بذنوبهم وأخطائهم وطلبوا السماح والصفح من الضحايا، وبعد ذلك حددت اللجنة موقفها بالصفح والصلح والعفو المشروط أو الجزئي. وعلى ذلك، فليعلنها «الإخوان» أولاً، ويحلوا تنظيمهم وليطلبوا الصفح بعد الإقرار بالأخطاء. وبعد ذلك يكون القرار للشعب، وعلى الأغلب برفض المصالحة أيضاً!