لم يكتف الدكتور أمجد قورشة، أستاذ الأديان المقارنة في كلية الشريعة في الجامعة الأردنية، بما حققه من شعبية كبيرة في أوساط الشباب المتديّن، لطريقة عرضه العصرية للقضايا الدينية، فتكفّلت الحكومة الأردنية بجعله نجماً مشهوراً، وحديث المنتديات الاجتماعية والصالونات السياسية والعالم الافتراضي المحلي، في الأيام الماضية، بعد أن اعتقلته ووجهت إليه تهماً مطّاطة بذريعة “الإساءة لدولة صديقة وتعكير صفو علاقات الأردن الخارجية”.
والطريف أنّ التهمة الموجّهة للأستاذ الجامعي والداعية الإسلامي (مواليد 1967) مرتبطة بشريط فيديو مصوّر له قبل عامين، ينتقد فيه مشاركة الأردن في التحالف الدولي لضرب تنظيم داعش، فماذا عدا مما بدا حتى يتذكّر المسؤولون هذا الشريط، واستخدامه لاعتقال قورشة واتهامه. وفي الحقيقة، قد يكون الشريط أحد الأسباب فقط، لكن هنالك تذمّراً منه، بدأ منذ أعوام، وأخذ في التراكم، ووصل مداه، في الفترة الأخيرة، فأصبح كل ما يصدر عنه مستفزّاً للنخبة السياسية، ويتم المبالغة والتهويل في تأثيره على المجتمع، حتى اتُّخذ القرار المتسرّع باعتقاله، وتوجيه التهمة له.
اعتبرتُ القرار متسرّعاً، لأنّه خدم قورشة، وألّب الرأي العام على الدولة، وزاد من عدد معجبي الرجل، بل وأدى إلى ترويجٍ غير مسبوق لصفحته في “فيسبوك” وفيديوهاته، وحتى ذلك الفيديو، ودفع الشريحة العامة من المجتمع، المتدينة المحافظة، إلى التعاطف معه، وأحدث حالةً من الاحتقان الاجتماعي مفاجئة للجميع، حتى أنّ نسبةً عريضةً من شباب الإخوان المسلمين لم يبدوا غضباً على قرار إغلاق مراكزهم، كما فعلوا في نشاطهم “الفيسبوكي” بسبب اعتقال أمجد، وهو ليس من الإخوان المسلمين، ولا محسوباً عليهم.
ليس لتلك الأسباب فقط القرار متسرّع، بل هو كذلك، لأنّه تجاهل الأبعاد والتداعيات السياسية والقانونية والمنطقية المترتبة عليه، وعكس نزق فئةٍ محدودة بالخطاب الديني والسياسي الذي يقدّمه قورشة، ولم ينتبهوا إلى أنّ معاقبته على هذه الآراء والمواقف هي، في نظر الشريحة الواسعة من الشارع الأردني، بمثابة اتهام لها ولمواقفها الدينية والسياسية، فكأنّ من اتخذ القرار دفع “الدولة” إلى الصدام مع نسبةٍ عريضةٍ من الشارع الأردني.
التهمة أنّه ضد مشاركة الأردن في التحالف الدولي ضد الإرهاب؟.. طيب، هذه قصة قديمة انقسم الشارع الأردني حولها، والأردن لم يعد يشارك أصلاً في تلك الهجمات منذ شهور طويلة.
هل القصة خطابه الديني والوعظي الذي ينشط فيه، مطالباً النساء بالتحجّب والشباب بالالتزام، وبعض فتاويه الدينية؟ ليست أمراً جديداً، فهذا هو موقف التيار المحافظ عموماً، وحتى أغلب أساتذة الشريعة في الجامعات الأردنية، وربما أساتذة الطب والصيدلة أيضاً، فهل يمكن اعتقال مئات آلاف الأردنيين لآرائهم الدينية.
المفارقة أنّ أراء قورشة الدينية معتدلة، مقارنة بآراء أغلبية أساتذة الشريعة وأئمة وزارة الأوقاف الإسلامية، لكنّ الهوس الذي أصاب بعض المثقفين والسياسيين في الأردن بموضوع “داعش” جعلهم يربطون كل شيء بهذا التنظيم. ولعلّ أطرف نكتةٍ سمعتها عنه بأنّه “داعشي”، أو أنّه داعية جهادي، وهو ليس كذلك، ولم يكن في حياته، ولا في مواقفه في أيّ لحظة محسوباً على السلفية الجهادية، بل كان أقرب إلى الدولة حتى العام 2011، عندما بدأ يتأثر برياح الربيع العربي، ويسيّس آراءه ومواقفه، بعد أن كان مقتصراً على الشأن الدعوي. قبل ذلك، كان قورشة (الأكاديمي الشاب الذي أتم دراسته في الغرب) عضواً في المجلس الأعلى للإعلام، وله برنامج في التلفزيون الرسمي الأردني، واسماً مرشّحاً دائماً للردّ على المتطرفين. لكن، لأنّه دخل على الخط السياسي، واقترب من المعارضة للسياسات الرسمية، وإن كانت آراؤه السياسية ذات طابع مبسّط، لا تمتلك عمقاً ولا إدراكاً حقيقياً للتحولات الجارية، ثم لأنّه عبّر عن آرائه بوضوح، وله عشرات الآلاف من المعجبين على شبكات التواصل الاجتماعي، تمّ تركيز الضوء عليه، وصولاً إلى اعتقاله.
قورشة، اليوم، في السجن، بينما كان يمكن بسهولةٍ أن يتم التواصل معه عبر شخصيات لها وزن، ومناقشته بشأن آرائه السياسية والفكرية، أو حتى بعض فتاويه، وهو على درجةٍ من المرونة والبساطة، من دون إحداث أزمةٍ كبيرةٍ واحتقان اجتماعي واسع، وتوجيه رسالةٍ بأبعاد خطيرةٍ ودلالاتٍ قد لا تكون مقصودةً، وإذا كانت مقصودة، فالطامة كبيرة.