عروبة الإخباري- اشتغل العلماء سنين طويلة في مسألة اللغة هل هي إلهام أم اصطلاح، وهي مسألة طويلة الذيل قليلة النيل كما قال الأصوليون، ولذلك مثّل لها الشاطبي بما ينبغي حذفه من علم الأصول، فلا شك أن الله علم آدم الأسماء كلها، لكن هل علمه إياها عن طريق التوقيف، كما يقول أصحاب القول بالتوقيف؟ أو أنه ألهمه طريقة الاصطلاح عليها، كما يقول أصحاب القول بالاصطلاح؟ أو أنه أوقفه على بعضها وألهمه طريقة الاصطلاح على بعضها الآخر، كما يقول الذين جمعوا بين القولين؟ كل هذا ممكن، ويصعب الجزم بأحد هذه الأقوال، ولا فائدة عمليّة ترجى من التصريح بإثبات أحد هذه الأقوال، ما قادني إلى ذكر هذه المسألة هو الأمر نفسه في نقاش طال منذ سنين طويلة حول قصيدة النثر، أشعر منثور هي أم قصيدة نثر؟
أيجوز تسمية النثر قصيدة أم يحرم هذا في دين الشعر؟ أنقبل بالشعر الحر لأنه اكتفى بالتفعيلة من بقايا الوزن التقليدي الذي ابتدعه الخليل ونرفضها أم نعدّها تطورا طبيعيا للتخلّص من أعباء الصرامة في القوانين؟ هل الوزن هو روح الشعر كما ترى نازك الملائكة لدرجة تجعلها تؤكّد أن الصور والعواطف لا تصبح شعرية، بالمعنى الحق، إلا إذا لمستها أصابع الموسيقى، ونبض في عروقها الوزن، أم أنه آخر القلاع الشكلية لصورة الإيقاع المنتظم في القصيدة العربيَّة، وسرعان ما بدأ هذا الحصن بالتآكل من خلال ثورة الشعر الحر كما يرى أدونيس؟ من العبث أن نبقى ندور في هذه الدائرة المفرغة بلا فائدة ترجى، وعلينا أن نكون جريئيين في اتخاذ القرارات، ونعترف بالتغيير الذي يفرضه علينا الزمن، الخليل بن أحمد ليس آلهة الشعر وما أوجده من بحور وتفعيلات ليست كتابا مقدسا، والأجناس الأدبية ليست من النبوة في شيء لتبقى كما هي بلا زيادة أو تحوّل!
إن التعدد الحاصل الذي يصل حدَّ الاختلاف إنما يشير إلى خصب القريحة العربية، وقدرتها على مواكبة كل جديد في حقل الشعر، وما قصيدة النثر إلّا تطوّر طبيعي يحمل في طيّاته ثورة على سلطان القواعد، يسجّل حضوره كائنا حيّا قال من قال واختلف من اختلف! أيّا كان العامل المحرّض لنشوء قصيدة النثر العربية المثاقفة، والاحتكاك بإنجازات قصيدة النثر الأوربية، والترجمة، أو محاكاة تطورات الحياة السريعة، ويكفي أن نرى إنجازا عربيا كبيرا فيها، ليُشجَّع الشاعر والناقد العربي على حدّ سواء من أجل إعادة النظر في الأمر. وهذا أنسي الحاج حين سُأل: هل يمكن أن نخرج من النثر قصيدة ؟ أجاب بكل بساطة: أجل، فالنظم ليس هو الفرق الحقيقي بين النثر والشعر. لقد قدمت جميع التراثات الحية شعرا عظيما في النثر، ولا تزال. وما دام الشعر لا يُعرف بالوزن والقافية، فليس ما يمنع أن يتألف من النثر شعر، ومن شعر النثر قصيدة نثر . ولجبران خليل جبران رأي جريء حين يرى أن الوزن والقافية قيدان على الإبداع، وأنا بنفسي سوف أبدأ في التخلص من هذه القيود، وأكتب شعرًا يلائم الواقع الذي أعيش. أمّا السرد، فهو سمة مهمّة في قصيدة النثر، فهي بلا شك ليست مخططا روائيا ولا قصة مترامية الأطراف، لكنها تتكئ كثيرا على السرد لتفاصيل صغيرة جدا، بلا هدف عمليّ من السرد، وبفضل عنصر «اللاغرضية» تتفرّد بجنسها الخاص المبهم في دلالاته الغامضة، فهي لا يريد أن تصل إلى نتيجة ما، وإنما غرضها غرض فني جمالي محضّ، تقرن اللغة المجازية بالتخييل، وتغلّفها بالعاطفة، فتخرج من الرتابة إلى فضاءات متحرّرة تقف في منطقة وسطى بين النثر والشعر، وتحتلّ مسمّى خاصا بها، من الظلم الفادح في حق تراثنا أن لا نراها. لم توضع قصيدة النثر للقص المنمذج أو لإعطاء المواعظ والحكم أو للتفسير والتأويل، بل على المرء أن يتقبّلها كما هي ليتمتع بما فيها من سحر وقدرة علي بعث الدهشة في النفس البشرية. أما شاعرنا المحتفى به جميل أبو صبيح فهو من روادّها القلائل الذين أسسوا لها كيانا مستقلا، وطوّروها بتقنيات سرديّة لافتة ميّزتها، وجعلتها حيّة لا تموت، فهو يكشف لنا الستار المسدل على أوجاع مجتمعاتنا، ويصرّ بعين المبصر لصغائر حيثياتها أن يواجهها بصمود، فيسرد التفاصيل الصغيرة جدا التي لا يتوقف أمامها الكثيرون ويجعل القارئ يستشعر الحدث كأنه يراه ويحياه، هذا الأمر جعل القصيدة بين يديه ليست مجرد موسيقى الحروف بل سرد قصصي يمزج الفلسفة بالفكر بتدفق العاطفة الحيّة.
يحيي الشاعر جميل أبو صبيح قصيدة النثر ويلبسها ثوبا سرديّا جميلا، ولا يغفل عن الإيقاع الصوتي السلس للأبنية اللغوية الواضحة بعيدا عن الوعورة والغرابة من جهة الشكل الخارجي، ودقة دلالتها على المعنى من جهة البنية الداخليّة. فاللغة بنية خطّية لها بعدان: ظاهري بالدوالّ الصوتيّة؛ وباطني خفيّ بدلالة المعنى، يوازن بينهما في تناغم لافت، وبحداثة فريدة تتصاعد أيضا الرمزية المكثّفة لديه التي تجعل القارئ يفكّر كثيرا فيما وراء الدلالات، ويشارك المتلقي تكهناته الفلسفية، فلا يكون غريبا مقصيا، وهذا بحدّ ذاته متعة قرائية قلّما توجد. في عرض موجز لسردية قطار الليل نقف على ما يبرزه الشاعر من فنيّة في قصائده النثرية، فيوفّق بتوظيف كل عناصر القصّ: الشخوص الرئيسة والثانوية، المكان، الزمان، العقدة، النهاية، وما هذه القصيدة إلّا نموذج لما يسير على خطاه: في قطار الليل القطار المنطلق كسلحفاة سريعة من أقصى الجنوب بعد الثامنة مساء إلى أقصى الشمال حيث الشبابيك بلا زجاج والستائر بنات الرياح أربعة أصدقاء يمتطون خيول الشِّعر على المقاعد الخلفية يتلاعب في الوصف اللغوي للقطار، والأصدقاء، فأول ذي بدء يتوارى المعنى الكلي قصيّا بتركيب الإضافة ليعطي انطباعا أوليّا بمفتاح الإضافة الذي يحدّد الدائرة الكليّة للمعنى ولا يخصّصها فتبدو واضحة لدى المتلقي: (قطار الليل) (أربعة أصدقاء) ثم يردف قائلا: (قطار الليل) القطار المنطلق كسلحفاة سريعة. (أربعة أصدقاء) يمتطون خيول الشِّعر على المقاعد الخلفية . للأمر دلالة المشابهة بين (قطار) و (أصدقاء)، ثم (قطار الليل)/ (أربعة أصدقاء)، ثم ( قطار الليل) القطار المنطلق كسلحفاة سريعة/ (أربعة أصدقاء) يمتطون خيول الشِّعر على المقاعد الخلفية، وهنا يبدو التصوير الفني المقصود ليدعّم علاقة المشابهة، السلحفاة لم تكن يوما رمزا للسرعة لكن القطار سريعا، وعلينا ألّا ننسى أنه قطار الليل، والعتمة لم تكن يوما سبيل سرعة. الأصدقاء الأربعة يمتطون خيول الشعر، والخيل مندفعة سريعة فكيف يكون الأمر إن حُدّدت بخيول الشعر العاصف في خيال مفتوح المدى!
وقبل أن ينطلق الوصف في فضاءات السرعة لدى المتلقي يعود الشاعر مقيّدا إياها كما فعل في القطار حين يضيف عنصر المكان (على المقاعد الخلفيّة) فينهي الأمر ويخرج السرعة من دائرتها المحتملة الوحيدة في وصفه السابق، ويتمّم المشابهة لأبطاله المقيّدين، القطار والأصدقاء وما يلحق الوصف مسألة آلية تبدو بيد أنها غير مرتّب لها. الزمان والمكان حاضران بقوة في مطلع السردية، كي تكتمل الصورة للحكاية، وما يفاجئ المتلقي الذي ينتظر تتمة الخبر عن الأصدقاء والقطار أن الشاعر هنا أيضا يتابع معه مجريات الأحداث، يتدخل المرسل بطلا في بعض القصص لينأى بها بعيداً عن السردية المسهبة، فيعرض الأمر بطريقة ذات وقع خاص، فيؤثّر على المتلقي، ويشركه معه أيضا: كنت متمددا على المقعد أعبث بشعر الليل أناملي على ورق القصائد والقصائد تقفز على المقاعد الخلفية يلملمها فارس أندلسي بلكنة مغربية يكمل رسم الصورة في ذهن المتلقي للطرقات التي يمرّ منها القطار، فيدخل شخوصا جديدة هي القطط السوداء التي تلاحق السلحفاة أي القطار، والفراشة الجميلة بمعناها الظاهري والمجازي، فيصل بنا إلى عقدة الحكاية حين ينتظر الشعراء من الفراشة تأهب القصيدة أو يكفي أن تنثر الحياة بطرف جناحها ليكتبوها، لكنّها تنام متجاهلة ما ينتظرون: لا قمر يضيء لا جبال تسهر خلف الشبابيك لا أشجار ليس سوى قطيع قطط سود يركض على جانبي السلحفاة كانت الفراشة تبتسم كانت جميلة لم ترم وردتها على سكة القطار وقد تهيأت تقفز في بحر الليل لبست ثوبها الشعري وأمسكت بساق وردتها رتبت تاجا من الكلمات المضيئة لكنها لم تكتب قصيدة ولم تنثر فراشاتها في فضاء القطار وضعت راحتيها على عينيها وغفت .. ثم ينهي السردية بوصف يعود به لمطلعها، ليذّكرنا أن أبطاله في سفر، وكل مسافر يحلم ببيت يستقر فيه، لا عتمة فيه ولا سرعة ولا قطط سوداء تلاحقه: تذبل عيوننا قليلا تطير الى بيت مضاء يطل على النجوم في ليلة صافية بيت على جزيرة واحدة بيت يتسع العائلة كلها من الماء الى الماء وقطار الليل القطار الراكض كسلحفاة سريعة يعبر نحو الفجر نحو الخامسة والنصف صباحا فيعود بالقارئ إلى بداية السرد، وكأنه يقول له أن الحياة لا تتوقف، في دورة كونية متتابعة، عليك أن تتأملها برفق لتدرك كنه الحقائق وخباياها، فيقوده للتأمل وهو يتخيّل كلا من أبطاله في السردية، فجاءت قطار الليل متقنة الوصف والتجزيء والمجاز.
وأخيرا أقول يحتل السرد مكانة مهمة وحيزاً كبيراً في الثقافات الإنسانية المختلفة، فهو، كما يقول بارث: «يوجد في كل الأزمنة وكل الأمكنة، وفي كل المجتمعات، يبدأ السرد مع التاريخ أو حتى مع الإنسانية، فليس ثمة شعب دون سرد، وحين يكون السرد شعرا يتجلّى جماله أوج السرديات المأمولة. ولا أفضل من قصيدة النثر في هذا التمثيل، فهي التي حقّقت أصول السرد ولم تغفل المجاز والعاطفة والإيقاع، فكانت جنسا أدبيا مختلفا، ما زال يحتاج من الدارسين الجهد الكبير للإحاطة به، وما زال بابا إبداعيا صعبا يظنه السالك دارا آمنة فينزلق فيه، فإذ بالوعورة تتصدى له إن لم يكن حصيفا متمكنّا من اللغة ويمتلك قريحة الشاعرية.
د. نهلة الشقران – ناقدة من الأردن، وأستاذة النقد الحديث (مادة التذوق الأدبي) – كلية الآداب – الجامعة الهاشمية