أساساً ومن حيث المبدأ، لا يجدر بمراقب حصيف قراءة السياسة الخارجية الإيرانية من خلال التصريحات المتطايرة على ألسنة عدد لا حصر لهم من المتحدثين باسم مختلف القوى والمراجع السياسية والدينية هناك. وليس من الصواب أيضاً عمل “تقدير موقف” من جانب المخاطبين بدور إيران الإقليمي، استناداً إلى خطاب التهويل والمبالغة والتبجح الذي درج عليه قادة الجمهورية الإسلامية، لاسيما إزاء الجوار العربي أو الولايات المتحدة الأميركية.
لكن، ما العمل بالنسبة للذين لا يأخذون الكلام الإيراني على محمل الجد، إذا كانت إدارة الولي الفقيه إدارة ثيوقراطية شمولية مطلقة، تعتمد التقية السياسية، وتفتقر إلى الشفافية؟ وكيف للمراقب، والحالة هذه، أن يستبين شحم سياسة إيران من لحمها، وأن يقارب عين الحقيقة عبر محفوظات قادة الحرس الثوري، وأناشيد جنرالات الجيش والرئاسة والحكومة، وغيرهم من المغردين في البرلمان ومصلحة تشخيص النظام وصيانة الدستور، فيما الضالة المنشودة مخبأة تحت عباءة المرشد الأعلى؟
لذلك، يبدو السبيل الوحيد المتاح أمام الباحثين عن حبات القمح القليلة وسط كومة كبيرة من غلال الشعير الإيراني، القيام بغربلة المواقف الملتوية، وتمحيص التصريحات الملتبسة، مع إمعان النظر ملياً في التفاعلات المكتومة والتغيّرات الجارية تحت السطح، للوقوف على ما تيسر من حقائق صلبة، حتى وإن كانت غير مكتملة، من أجل بناء “تقدير موقف” يعتد به، بعيداً عن المقاربات الرغائبية، والاستنتاجات السهلة والافتراضات المسبقة.
وعليه، من المفيد وضع التصريحات والمواقف الإيرانية جانباً، لتركيز الأبصار على ما يمكن اعتباره مواقف صلبة؛ في مقدمتها إعراض الغرب عنها رغم الاتفاق النووي، وسوء أوضاعها الاقتصادية، وتزايد تحدياتها الإقليمية، وتآكل مركزية دورها في سورية منذ التدخل العسكري الروسي، حيث بات رب البيت في دمشق من يسميه السوريون المؤيدون “أبو على بوتين”، وليس الجنرال قاسم سليماني الذي فشلت مليشياته متعددة الجنسيات في تأمين بقاء الأسد، بل وكاد يخسر الحرب، لولا وقوع ما صار يعرف بـ”عاصفة السوخوي” في حينه.
إلى جانب هذا المعطى الملموس، هناك متغير آخر لا يقل أهمية، ماثل في تلك الخسائر البشرية الفادحة في صفوف “المستشارين”، ناهيك عن سوء أداء المليشيات المذهبية الحليفة (الأفغانية والباكستانية والعراقية)، التي نزفت بغزارة في زمن ما قبل التدخل الروسي المباشر، ثم تضاعف نزفها بعده، الأمر الذي وضع آيات الله أمام مهمة مستحيلة، ذات تكاليف بشرية ومالية لا تقدر عليها في الواقع، خصوصاً مع كتائب معارضة متمرسة ومدججة ومدعومة، تحارب في أرض صديقة لها، وبين صفوف شعبها.
ما هو أشد فداحة مما سبق ذكره، تمثل في تلك الهزائم القاسية التي تلقتها المليشيات الإيرانية بعد التدخل الروسي، سواء في تلة العيس -التي كان خالد بن الوليد قد انتزعها من الروم بعد جهد جهيد، ثم كرر المشهد ذاته (يا لمكر التاريخ) أحفاد سيف الله المسلول، بانتزاعها من أيدي الفرس هذه المرة- أو في خان طومان لاحقاً، حيث ضجت مدن إيرانية من تزايد أعداد التوابيت العائدة، فضلاً عن الجرحى والأسرى والمفقودين، إلى حد حمل بعض الناطقين الإيرانيين على اتهام روسيا بالتخلي عن حليفها، فيما اتهمها البعض الآخر بالغدر والخيانة.
كان انعقاد اجتماع وزراء دفاع كل من روسيا وإيران وسورية، مؤخراً، إشارة قوية على أن طهران فاض بها الكيل، واشتد عليها الخطب، جراء التكتيكات الروسية غير المواتية لأجندة إمبراطورية فارسية توسعية، كما فاقم ارتيابها تعاظم مظاهر التفاهم السياسي بين موسكو وواشنطن حول سورية، ناهيك عن تطيّرها من التنسيق الروسي الإسرائيلي على رؤوس الأشهاد، وهو ما أدى إلى زيادة استهداف قيادات وأسلحة درة التاج الإيرانية، نعني بها حزب الله.
إزاء ذلك، من المرجح أن طهران بدأت تدرك، متأخرة، أنه لم يعد في جعبتها غير الجعجعة، وأنها أمام حائط مسدود، حيث هي من تدفع التكاليف الباهظة، فيما روسيا تحصد الجوائز الثمينة؛ وأن موسكو المتريّثة لا تشاركها الرؤية أو الأجندة. كما أن بوتين يتعجل الخروج من المستنقع السوري بصورة نصر تحفظ ماء وجهه، وتجنبه الانزلاق في تجربة أفغانية جديدة.