بالعودة إلى الملف الشخصي لمحمود المشارفة، الذي قام بتنفيذ العملية الإرهابية على مكتب مخابرات البقعة، (وهو بالمناسبة من مواليد العام 1989 وليس 1994)، نجد أنّه تأثّر مبكّراً بأقران وأصدقاء في الحيّ، وببعض الشيوخ الموجودين. ووفق تقرير لـ”بي. بي. سي”، وبحسب أحد أصدقائه خلال مرحلة الطفولة، فإنّه بدأ مبكّراً طريق التدين، ووصل إلى التشدد عشية دخوله الجامعة.
قرّر المشارفة ترك الجامعة، منذ البداية، بسبب “الاختلاط” بين الطلاب والطالبات، بالرغم من أنّه كان يعشق دراسة الكهرباء. وفي مرحلة لاحقة؛ العام 2012، أقنعه أحد العائدين من “جيش الإسلام” في غزة، بتشكيل خلية والسفر إلى هناك للتدرب وتعلّم القتال، والانضمام إلى ذلك التنظيم المعروف حينها بانتمائه -أيديولوجيا- إلى “القاعدة” (قبل أن يتحول التنظيم نفسه إلى الولاء لداعش).
ألقي القبض على محمود على حدود العقبة (خلال محاولته السفر إلى غزة)، وسُجن في الموقر. وأضرب عن الطعام أسابيع عدة، وفقا لمحامي الدفاع موسى العبداللات. ثم نُقل إلى سجن رميمين (مع مجموعته نفسها، وكانت أربعة أشخاص)، قبل أن يخرج وينتقل درجة أخرى في التشدد نحو تنظيم “داعش” في منتصف العام 2014، بعد أن تم إعلان تأسيس “دولة العراق والشام”، ثم إقامة الخلافة المزعومة.
اختفى عن الأنظار قرابة عامين، قبل أن يظهر مؤخراً لتفنيذ العملية الأخيرة (ضد مكتب المخابرات في البقعة). هذه معطيات أولية عن الخط الذي اتخذه محمود. وما تزال ثمّة أسئلة معلّقة بانتظار نتائج التحقيق، أو تقرير صحفي يتحفنا به أحد الصحفيين الأميركيين، لما يمكن أن يحصل عليه من معلومات مهمة، بينما نحن –الصحافيين والباحثين الأردنيين- سنبقى عالة عليهم، وتحت طائلة “منع النشر”!
الفكرة المركزية في هذا المقال تتمثل في أنّ الإجابة المعتادة عن أسباب نمو اتجاه “داعش” في المجتمع خلال الأعوام الماضية، تتمثّل في تأثير شبكة الإنترنت على الشباب. وهي إجابة بحاجة إلى فحص وتعمّق أكثر من قبل المعنيين والباحثين. إذ بالعودة إلى حالة محمود، سنجد أنّ التأثير الأساسي عليه، منذ البداية، كان مرتبطاً بصلات الجيرة والقرابة والصداقة، أي في العالم الواقعي، لا الافتراضي.
ولو نظرنا إلى خلية إربد، سنجد المؤشرات نفسها. وقبلها في طريقة تجنيد عشرات الشباب الأردني للانضمام إلى تنظيم “داعش” أو “النصرة”؛ فهي العوامل نفسها: القرابة، والصداقة، والجوار (الحيّ). حتى أولئك الذين تمّ تجنيدهم عبر الإنترنت، فإن كثيرا منهم تواصل مع أقارب أو أصدقاء له ممن سبقوه بالانضمام إلى “داعش” و”النصرة”، وهناك قصص عديدة يذكرها أهالي هؤلاء الشباب تؤكّد هذه المعلومة.
بالضرورة، الإنترنت وسيلة مهمة اليوم في توفير التواصل بين أفراد هذه المجموعات، وفي نقل الرسائل المشفرة والمعلنة، وفي نشر دعاية التنظيم. مع ذلك، يبقى هناك أمر مهم، وهو “محتوى الرسالة” نفسها أو “الرواية” التي تمكّن التنظيم من اجتراحها وأقنعت هؤلاء الشباب، بينما فشلت رواية الدول العربية والجهود الغربية في مكافحة تلك الرواية.
علينا، إذن، التركيز على المجتمع المحلي والخطر القادم من الداخل؛ فلو لم تكن القابلية للتطرف والإرهاب موجودة، لما تمكنت تلك الرواية من اختراق عقول الشباب واختطافها. هذه الفرضية، أي التركيز على الشأن المحلي، هي تلك التي تبنتها دراسات مهمة صدرت في الآونة الأخيرة، مثل دراسة سكوت أتران “الحديث إلى العدو: الدين والأخوة وصناعة الجهاديين وتفكيكهم”، والتي يتتبع فيها كثيراً من الخلايا والحركات الجهادية ليصل إلى النتيجة المهمة بأنّ المجتمعات المحلية هي التي تنتجهم وليس شبكة الإنترنت.
إذن، علينا أن ننظر إلى “الداخل” وإلى المجتمع وتحولاته وإلى جيل الشباب، ونعيد قراءته مرّة أخرى.