تتبرأ عشائر بئر السبع من أحد أبنائها، الذي تسبب بجريمته في البقعة باستشهاد خمسة من منتسبي جهاز المخابرات العامة. ووالد الجاني تجرى معه مقابلة تلفزيونية، يعلن فيها إدانته للعمل الإرهابي الإجرامي. لكن، من قال إنهم يؤيدونه أصلا؟ ولماذا؟
النائب السابق والقانوني مصطفى ياغي يصدر، بدوره، بياناً مشابها؛ يدين فيه العمل الإرهابي. وهنا أيضاً لا أدري ما علاقة ياغي بالجريمة، حتى لو كان القاتل ابن اخته، لاسيما وأن النائب السابق شخصية معروفة للناس؛ بمنطقها ومواقفها.
هل كل أولئك مضطرون لفعل ما سبق؟ بصراحة وبساطة شديدتين: لا. ففي دول القانون والمؤسسات، يحاكم الجاني وحده على جرائمه، فلا يذهب بجريرته أي فرد آخر؛ أكان من عشيرته أو حتى أسرته. لكننا، وللأسف، نجد أنفسنا في كل مرة مدفوعين بفعل أقلية مغرضة، للعودة إلى أصغر مربع عشري في التفكير البدائي، فنغفل -ليس جميعاً بالتأكيد- عن القصة الرئيسة والبدهية؛ أن العمل الإرهابي فردي، لا يحاسب عليه إلا فاعله.
ما أحزنني أن مكونا أصيلا في مجتمعنا ما يزال يخشى في كل مرة يقع فيها حدث إرهابي، من أن يكون المتهم/ الجاني منتمياً لهذا المكون، مع ما يلحق ذلك من مخاوف وتبعات، تؤدي إلى أجواء مرضية تشكل للبعض بيئة مثالية لتوتير الأجواء فقط.
طفل أحد الشهداء الخمسة -تماما كوالد المتهم- تم استخدامه في معركة إعلامية تعبوية ذات أساليب باهتة لا تخدم أحدا؛ لأن الموقف النهائي للناس جميعا تجاه الإرهاب محسوم، فلا يحتاج إلى استغلال طفل بريء فقد والده للتو، وانتهكت حقوقه بتصويره وتلقينه كلمات مهما كانت مهمة، إلا أنها لن تغطي على شعوره بالفقد لوالده. وما توظيف الطفل إلا جريمة أخرى بحقه؛ إذ تضحّي ببراءته وحقوقه الطبيعية.
فشل هدف الهجوم الإرهابي غير المعلن؛ وهو إحداث الفتنة بين مكونات المجتمع الأردني. وذلك بفعل وعي رسمي تنبه لخطورة القصة؛ وأيضا وعي مجتمعي، تبخرت معهما الأصوات العنصرية التي ظهرت لأسباب تتعلق بالجهل وغياب الوعي. وتالياً، غاب أصحاب النفوس الصغيرة عن المشهد، لتعود الأمور إلى نصابها في غضون ساعات.
الأخطاء المهنية الخطيرة من وسائل إعلام، كانت حاضرة، أيضاً. إذ قرأنا، مثلاً، أخبارا لوكالات عالمية تتحدث عن خمسة قتلى في أكبر مخيم للاجئين الفلسطينيين في المملكة! بما يجسد افتقادا للمهنية والحرفية على الأقل، أو يخفي خلفه أمراضا إقليمية لا تنفع إلا من يسعى إلى الإضرار بهذا البلد ووحدة أهله.
ويبقى قرار منع النشر في القضية، والذي كان آخر القرارات التي تؤكد فكرة استسهال التضييق على الحريات، وحرمان الناس من معرفة الحقيقة بشأنٍ آلمَهم وصدمَهم. والآن، سيبقون فريسة سهلة لمواقع التواصل وبعض ناشطيها ممن يبثون الكذب والفتن، من دون إعلام مهني يبحث بحق عن المعلومة.
اللافت أن “منع النشر” الذي يشمل المؤسسات الإعلامية، جاء بعد أن تداول الناس كثيرا من المعلومات والتقارير السرية المتعلقة بالتحقيق وتفاصيل القضية؛ بمعنى أنه لم يعد بالإمكان حجب المعلومات في زمن بات العالم فيه قرية صغيرة.
بعد كل ذلك، يظل لفجيعتنا بالشهداء الخمسة جانب إيجابي، يتمثل في أن كل أردني حارسٌ للوطن وأمنه. وشباب عشائر العدوان قدموا أنموذجا نبيلا راقيا في المواطنة الحقة، وهم من ألقى القبض على المتهم بارتكاب الجريمة النكراء، فأصيب اثنان منهم. هنا نعلم أن كل مواطن جندي على جبهة الوطن، لكن من دون أن يعني ذلك عدم المضي في سحب السلاح غير المرخص، لأننا عانينا كثيرا من انتشاره بين أيدي الناس من دون حسيب ورقيب.
يبقى السؤال الأهم: متى خسرنا الفتى المتهم، فتحول إلى إرهابي؟ في أي غفلة ضاع من عائلته ومجتمعه ومدرسته، ومنا جميعا، فصار يحمل كل هذا الظلام والإرهاب بداخله؟ وعلينا أن نسأل أنفسنا، تالياً: أين النادي والمدرسة والمركز الثقافي والمناهج والعدالة وفرص العمل، والعمل الحزبي؟ ترى لو وجد كل ما سبق، هل خسرناه، فصار وحشا بلا قلب وضمير، اختطف من بيننا خمسة شباب آخرين بعمر الورد؟