يأتي رمضان وتأتي معه تلك اللحظات الحلوة التي ننتظرها بشغف من عام إلى عام، لنعيش معه في منافسة بين صالح العمل وعذب الذكريات التي نجد معها أنفسنا من دون إرادة داخل دائرة من المقارنة بين رمضان الحاضر ورمضان الماضي، نفرح بتحقق بعض مما كنا نتمنى، ونتمنى عودة كثير مما نفتقد!
ومن المعروف أن مائدة الإفطار هي المائدة الرئيسة الأشهى التي تملأ البطون بلذائذ الطعام في شهر الصوم، ولكن مما لا شك فيه أن هناك مائدة رديفة يجتهد الكل على رص أطباق البرامج المنوعة على شاشاتها التلفزيونية، لتملأ وعاء الوعي بالغث أو السمين من معروضاتها، لتكون الحصيلة الرمضانية إما زيادة وزن من تفاهة واستخفاف بالعقول وتخريبها، أو بامتلاء واضح في الفكر والثقافة وحشوها بفائدة فكرية وروحانية تثقل من حجم المدارك العقلية الثقافية وتسمن وزن النفوس الإيمانية.
لو وضعنا شاشات رمضان «زمان» وشاشات رمضان «الآن» في مقارنة بسيطة بين المحتوى المقدم، لدمعت الذكريات أسفاً على ما كان وما أصبح.
في الماضي كانت هناك ضمائر حية توازن بين الفائدة المالية والمعنوية، بحيث لا يطغى أحدها على الآخر، بعكس ما هو حاصل الآن، من الحرص على ملء الجيوب بتفريغ الأخلاق والعقول!
كانت القنوات التلفزيونية الرسمية ذات رسالة تحمل على عاتقها مسؤولية الترفيه العائلي المحترم، الذي يبني ولا يهدم أخلاقيات وقيماً هي الأساسات القوية التي يبنى عليها المجتمع.
من منا ينسى برامج الأطفال ومسلسلاته في رمضان، التي كنا نجتمع معها حول ذلك المستطيل المضيء بصوره المتحركة، والذي كان يأتينا بصوت حبابة وقصصها الآسرة التي ترسل إلينا من خلالها عشرات النصائح، وتزرع فينا مئات القيم من خلال أحداث قصة، من دون أن نشع؟
من ينسى هايدي الجميلة، وغرندايزر البطل الذي يصارع الشر لينتشر السلام، سنان والليث الأبيض، كانت تشدنا صغاراً في الوقت الذي كان الشيخ علي الطنطاوي يجمعنا حوله بوقار، أسرة متكاملة مع والدينا وأجدادنا، وكل من حضر وجبة الإفطار، ليساعدهم في تربيتنا وإعطائنا جرعة إيمانية بأسلوب تربوي لا وعظ مباشراً فيه ولا تكلف ولا تشدد، ما ساعد بشكل أو آخر في تكوين بنائنا الروحي ونحن معه على مائدة الإفطار نتناول حديثه المختصر العميق بالشهية نفسها التي ننظر فيها إلى طبق الفاكهة الشهي، وإن كان بلاستيكياً، والذي ارتبط به وببرنامجه. رحمك الله شيخنا القدير، فقد كنا ننصت لبرنامجك بقلوبنا لا بأسماعنا، لنشبع من وجبة إيمانية مفيدة تمنحنا حياة أجمل.
ولو عطفنا قليلاً نحو برامج المسابقات لوجدنا أنها كانت برامج من النوع خفيف الروح ثقيل المحتوى، برامج لها دور فعال ومهم جداً في رفع المستوى الثقافي بأسلوب راقٍ من دون تهريج ولا استخفاف أو سخف معلومات، وبحث عن جوائز سهلة بهرطقات لا تليق بحرمة الشهر ولا غيره من شهور. أما المسلسل الإسلامي فغاب حضوره الجميل الذي اختصر فيه السير والأحداث التاريخية، بحيث كان على رغم إمكاناته الإنتاجية المتواضعة كتاب تاريخ يقدم المعلومة بشكل يحفظها بمتاحف الذاكرة. وكما كان للفطور حضور كانت للسحور لذة مع الشيخ محمد متولي الشعراوي – رحمه الله -، الذي نحلق معه حول مدار التفسير لكتاب الله بأسلوبه العميق وتجلياته النورانية، فنقترب من كتاب الله أكثر وبمعانيه نتدبر.
إعلامنا في ذلك الوقت كان رافداً للتفاصيل الرمضانية التي تسمو بالروح، يتناسب ويوازن بين الحاجات والرغبات، كنا نشعر بأن هناك كباراً تحملوا مسؤولية الرسالة الإعلامية، اهتموا بالدخول إلى العقول من خلال الترفيه، ليرتقوا بنا فكراً وأخلاقاً وثقافة. فما الذي تغير في المعادلة الإعلامية الآن ليصبح شغلها الشاغل إثارة الفوضى الأخلاقية من خلال تنافس المسلسلات بالعري الأخلاقي الذي يكشف عن عفن المواضيع الذي يعززه التعري في الملبس، والفحش في القول والجرأة في الطرح التي لا يمكن أن تمر مرور الكرام في مجتمعاتنا المحافظة، فما بالكم بالشهر الفضيل؟
أين نصيب صلاة التراويح من القنوات ذات المتابعة الأعلى؟ أين الأدعية والبرامج الدينية المحترمة من الأوقات الذهبية على جدول البرامج؟ وأين الإرواء الروحي لعطش العالم الإسلامي للنهل من عذب أصوات الأئمة في الحرمين الشريفين وقت الإفطار والتراويح وعند الفجر؟ وهل يليق بكل هذا التعطش والانتظار أن يقابل بنقل الحدث بجمود لا حياة فيه ولا اجتهاد في زوايا الصورة، ولا بحث عن لقطة يسيل لها الدمع تأثراً وخشوعاً؟ على رغم أننا نستطيع من خلال الحرمين أن نبث رسالة الإسلام السمحة لنظهر للعالم عظمة الإسلام، وأن المسلم سمح مسالم روحاني إيماني بعيد كل البعد عن العنف والتطرف والإرهاب، نحتاج إلى إعلام يستغل الشهر المبارك ليرد على الحاقدين بلا آيديولوجيات ولا تشنجات، يقدم المشهد ببساطة تلامس القلب والروح وتعزز الإيمان وتحبب بالإسلام، فليت كل مسؤول في الإعلام يحرص على تصفيد شياطين الشاشات، ليحترم عقول المشاهدين وروحانية الشهر.