المعركة المستمرة منذ قرابة أسبوعين على أطراف مدينة الفلوجة العراقية مثالٌ سافر على حجم الالتباس والتعقيد في تحديد مفهوم الإرهاب، وتعريفه، ومحاربته في كلّ من العراق وسورية.
الالتباس، أولاً، ما بين تنظيم داعش، بأيديولوجيته المتطرفة وتصنيفه الإرهابي، وأهالي الفلوجة الذين لا يؤيد أغلبيتهم، بالضرورة، هذا التنظيم، لكنّهم يعانون من الحصار والقصف، ويحصدون مئات الجرحى والقتلى، ويعيشون رعباً يومياً، وينتظرون مجازر وكارثة محققةً، إذا خسر التنظيم المعركة، ودخلت قوات الحشد الشعبي إلى المدينة.
في العام 2005 أعدّ الزميل الإعلامي، وائل عصام، فيلماً وثائقياً مهماً “جمهورية الفلوجة”، عن المعارك التي خاضتها المدينة، حينها، مع الجيش الأميركي، في العامين 2003، 2004، قبل أن ينجح الأميركون في دخولها، والقضاء على المقاومة التي عادت، مرّة أخرى، بعد أن شهدت العلاقة بين النظام الجديد والمدينة هدوءاً وتصعيداً.
أظهر الفيلم جزءاً مهماً من الواقع الاجتماعي في المدينة، والتقى بالمقاتلين فيها، وتبيّن أنّ أغلبهم من الجيش العراقي السابق، ومن أبناء المدينة، فيما كان هنالك عربي وحيد التقاه المخرج. من الطبيعي أنّ الوضع تغير حالياً، وهيمن تنظيم داعش على المدينة، بعدما أقصى القوى الإسلامية الأخرى، وهمّشها، لكنه نجح في تجنيد أعدادٍ من أبناء المدينة تحت الظرف القهري والحصار والخوف من البدائل المريرة المتاحة، وربما زاد عدد المقاتلين الأجانب، نسبياً، في المدينة.
لكن، مع الحصار الآخير، والقلق الشديد من المصير المجهول، مع مؤشراتٍ تؤكّد هذه الهواجس، ومع حمأة الصراع الأهلي في العراق، من المتوقع أن يقاتل من أبناء الفلوجة كثيرين اليوم ضد القوات العراقية والحشد الشعبي، ليس حبّاً في “داعش”، بل دفاعاً عن أنفسهم، ما يجعل التمييز بين الإرهاب والمقاومة والدفاع عن النفس أمرا في غاية التعقيد والصعوبة.
ستبقى الفقرة السابقة غير مفهومة وناقصةً، إذا لم ننظر إلى الجانب الآخر من المعادلة؛ أي الطرف الذي يقاتل داعش، فهنالك خليط، يبدأ من الجيش العراقي الذي يهيمن عليه العنصر الشيعي الموالي لإيران، إلى جانب الحشد الشعبي، وهي قوى ذات طابع طائفي سافر، تعمل بالتنسيق الكامل مع قائد فيلق القدس الإيراني، قاسم سليماني، إلى جانب مقاتلين أجانب آخرين من دول أخرى، جاءوا ليقاتلوا على أسوار الفلوجة، بالإضافة إلى الطيران الأميركي الذي يعطي الأفضيلة للطرف المهاجم.
وعلى الرغم من منع الدستور العراقي إنشاء أي فصيل مسلح تحت بند طائفي أو شعار طائفي، فإنّ من يتابع الفيديوهات المبثوثة على شبكة الإنترنت، وجزء كبير منها من الحشد الشعبي، يجد بوضوح الرمزية الطائفية في الأعلام والأناشيد والهتافات والتصريحات، وهيمنة منطق الانتقام والثأر من الفلوجة، فضلاً عن التسمية نفسها “الحشد المقدّس”، وصور قاسم سليماني على تخوم الفلوجة، يدفع ذلك كله إلى الحيرة والتيه في تعريف طبيعة المعركة الراهنة وتحديدها، وكيف يمكن تصنيفها.
هل هي مواجهة الإرهاب؟ من حشود طائفية وقوات من الخارج، وقائد عسكري إيراني يشرف على العملية، وهل هي فقط لقتال داعش؟ فماذا عن الأطفال والعائلات، وقد أقرّ مسؤولون عراقيون بوجود عمليات إعدام جماعي وقتل وانتهاك لحقوق الإنسان وإساءةٍ، حتى للعائلات التي هربت من القصف، ولجأت إلى الطرف الآخر.
أحاول أن أضع نفسي مكان أهل الفلوجة، ماذا كنت سأفعل؟ أهرب بأسرتي من جحيم داعش وجنونهم وعدميتهم إلى الحشد الشعبي، أيهما أرحم؟ لا أحد.
المفارقة هي في موقف الدول العربية التائهة اليوم، ما يظهر جلياً على التغطية الإخبارية والأجندة الإعلامية؛ هل يقفون مع البغدادي أم الفلوجة أم الحشد الشعبي وقاسم سليماني؟ هل يفرحون لـ”تحرير الفلوجة”، أم يقلقون للتعاون الوثيق بين إرهابيي عصائب أهل الحق مع قاسم سليماني مع حزب الله مع العمّ سام؟
أتساءل، بصدق وصراحة، هل يساعد ما يحدث في الفلوجة على حلحلة المشهد والتخلص من العبثية والاستنزاف الداخلي العراقي، أم ينقلنا إلى ما هو أكثر تعقيداً وأكثر سوءاً وأخطر؟