ثمة وجه للاقتراع الطرابلسي ضد «تيار المستقبل» والرئيس نجيب ميقاتي وحلفائهما في التحالف البلدي، لم يجر تناوله، وهو أن مدينة طرابلس اقترعت بعد أيام قليلة على زيارة قاسم سليماني محاور القتال في الفلوجة وتصويره المعركة فيها بصفتها جزءاً من المواجهة المذهبية المشتعلة في المنطقة كلها. كما اقترعت طرابلس أيضاً في اليوم الذي أعلنت واشنطن الهجوم الذي بدأت الإعداد له مع الأكراد على «داعش» في مدينة الرقة السورية. هجومان عسكريان الأول «شيعي» والثاني «كردي» على مدينتين عربيتين سنّيتين. حصل ذلك بينما كان الناخب الطرابلسي متوجهاً إلى صناديق الاقتراع.
يُخطئ مَن يعتقد أن طرابلس بعيدة ممّا يجري في المدينتين غير اللبنانيتين، وهو على كل حال اعتقاد بنت على أساسه القوى السياسية التي تلقت الهزيمة البلدية في المدينة الأسبوع الفائت، الكثير من توقعاتها. فلائحة التحالف ضمت إلى الحريري وميقاتي والصفدي شخصيات وقوى تستنفر لدى غالبية الطرابلسيين مشاعر سلبية، بينها مثلاً جمعية المشاريع الإسلامية (الأحباش) التي تربطها بنظام دمشق علاقات مستمرة إلى يومنا هذا، إضافة إلى قريب من الحزب العربي الديموقراطي المرتبط أيضاً بذلك النظام.
ولكن، ليس تركيب اللائحة التي تلقت الهزيمة، وحده ما أفسح في المجال لفوز اللائحة المنافسة، إنما أيضاً الخطاب السياسي لكل من اللائحتين. فالقوى الطرابلسية المؤتلفة في اللائحة الخاسرة مثلت للطرابلسيين جماعات غير منسجمة من «المتخاذلين»، بينما الوزير أشرف ريفي الذي تولى تشكيل اللائحة المنافسة خاطب في الطرابلسيين ضائقاتهم الفعلية، والأخيرة لا تنفصل عما يجري في المدينتين العراقية والسورية. فبالنسبة إلى طرابلسيين كثيرين لا يستهدف الهجومان على الفلوجة والرقة «داعش»، فالأخير ليس سوى قناع لظلامة مذهبية، وليست هزيمته ما ترفضه المدينة، إنما ما ترفضه هو هوية المنتصرين المذهبية والقومية.
وطرابلس التي لم تستسلم يوماً للبنانيتها، وأبقت أواصر متينة ورحمية مع عمقها الشامي، لطالما كانت أيضاً مدينة إقليمية، فلطالما وجدت فيها الدعوات «الوحدوية» صدى أكثر مما وجدته في المدن الأخرى اللبنانية، ثم إن ضم طرابلس إلى لبنان الكبير قبل الاستقلال وُوجه بمقاومة أبدتها المدينة التي مثلها حينذاك المفتي عبدالحميد كرامي، علماً أن كرامي كان آخر الاستقلاليين قبولاً بحدود لبنان وبضم مدينته إليه.
ليست الأسباب التاريخية وحدها ما يدفع إلى الاعتقاد بتقدم «إقليمية» طرابلس على لبنانيتها، فالراهن من الوقائع يكشف أيضاً انجذاب طرابلس إلى قضايا خارج الحدود. فهي مثلاً المدينة التي اختارها الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات كآخر موطئ قدم له في لبنان عام 1983، ووجد بين قواها من يحتضن لجوءه إليها. ولن يعدم الباحث عن تواريخ غير لبنانية للمدينة أن يعثر على واحد منها في كل محطة.
لكن اتصال طرابلس بحدثَي الرقة والفلوجة يتخطى التواريخ والمحطات إلى وقائع جارية، منها مثلاً أن شباناً من المدينة يُقاتلون في الرقة وربما في الفلوجة أيضاً، ومنها انتشار الأراجيز الإسلامية وصور قتلى أمراء «داعش» على هواتف مئات من سكان الأحياء الشعبية في المدينة، ناهيك عن انتشار الملصقات العملاقة لعشرات من الوجوه الملتحية من أبناء هذه الأحياء، ممن قتلوا أثناء حروب خارج الحدود.
والقول أن هذه المظاهر ليست مؤشراً يمكن الاعتداد به لتفسير هزيمة انتخابية محلية قد يكون صحيحاً في لحظة أخرى، فالقوى الطرابلسية التي دأبت على الإمساك بالناخب وعلى استثمار صوته في معاركها الانتخابية- وهي من خسر في انتخابات الأسبوع الفائت- لم تقدم في السابق للناخب الطرابلسي المعطى الإقليمي بصفته عنصراً راهناً في برنامجها، لكنها لم تُشعره بأنها خارج رهانه الإقليمي. أما اليوم فلائحة ائتلاف هذه القوى ضمت شخصيات أشعرت الطرابلسي بأنها في معسكر الخصوم الإقليميين والمذهبيين، بينما حرص راعي اللائحة المنافسة والفائزة على تضمين خطاب لائحته عناوين سياسية راديكالية شديدة العلاقة بالمزاج العام للطرابلسيين.
الحرب في المنطقة كلها موجودة في الوعي الراهن للطرابلسيين، وهي ليست موجودة بصفتها صوراً ومواقف بعيدة، إنما بصفتها وقائع تحصل في المدينة ذاتها. انتحاريون شبان تصل أخبارهم إلى أهلهم في أحياء المدينة، وحملات أمنية يُزج فيها مُدانون وأبرياء من أبناء طرابلس في السجون بتهم تتعلق بوقائع خارج الحدود، ومدارس ومعاهد تعليم ديني ممولة من جمعيات غير لبنانية، وهذا كله مضافة إليه صلات رحمية تربط معظم عائلات طرابلس بعائلات من المدن المنكوبة في سورية كحمص وحلب وحماة واللاذقية.
من يُرِد أن يخوض الانتخابات المحلية مستبعداً هذه العناصر والمعطيات، هو كمن يريد خوض انتخابات طرابلس في مدينة جونية، وهذا تقريباً ما فعله منافسو أشرف ريفي، وهم كل قوى طرابلس مجتمعة. وأن يتمكن سياسي جديد من إلحاق هزيمة بالجميع بلا استثناء، فهذا أمر يتعدّى غضب المدينة على «تيار المستقبل» لترشيحه سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية أو لوقفه مساعداته المالية عن شرائح كان يساعدها، ويتعدى أيضاً سعيها إلى الثأر من ميقاتي لمحاباته «حزب الله» وقبوله بتشكيل حكومة القمصان السود.
المسألة أعمق من تصويت نزق ناجم عن رغبة عقابية. وهنا يمكن قياس خسائر الحريري بتلك التي أصابته في انتخابات بيروت، وهي ليست على الإطلاق في حجم خسارته في طرابلس. الفارق يُمثل فارقاً بين مزاجي المدينتين، فسنّة بيروت حجبوا عن الحريري نحو 20 في المئة من أصوات مقترعيهم في الدورة الأخيرة، بينما حجب عنه سنّة طرابلس أكثر من خمسين في المئة من أصواتهم.
طبعاً، يمكن أن يكون الجواب أن بيروت لم تعثر على أشرف ريفي آخر يُمثل ضائقتها مع «تيار المستقبل»! لكن هذا الجواب يقول أيضاً أن طرابلس لم تعدم العثور على «أشرف ريفي» لأنها بحثت عنه، بينما بيروت بحثت عن «بيروت مدينتي» وعثرت عليها. وريفي سياق من المواقف الراديكالية التي أشعرت طرابلس بأنها تصلح للمواجهة، والمواجهة ليست لبنانية فحسب، إنما إقليمية تماماً كما هي طرابلس إقليمية.