يظل التطرف والكراهية موقفين ثقافيين أولاً، والصراع معهما ثقافي، ولا يغير من ذلك صحة أو عدم صحة السياسات والمقولات المتبعة في مواجهة التطرف وتفسيره، فما من شك، ثمة متطرفون وكارهون مستعدون لأن يضحوا بأنفسهم بسبب الكراهية، وهم على مستوى من الانتشار والتواجد ما يكفي لحروب أهلية مدمرة. وأخطر من ذلك أن كثيرين منهم يظهرون فجأة على نحو غير متوقع ومن دون معرفة مسبقة بمواقفهم ونواياهم، وفي ذلك يجب الإقرار بأن البيئة الثقافية السائدة تشجع على الكراهية وتحتضنها، وتنتجها أيضاً، وأن السياسات والعمليات الثقافية المتبعة لم تنجح في إنشاء بيئة ثقافية تواجه ثقافة الكراهية والموت، ولا مجال سوى مراجعة وتغيير السياسات الثقافية والاجتماعية ونقد المحتوى الثقافي السائد في كل أوعية التعليم والإعلام والمؤسسات الاجتماعية والدينية، ومحاسبة/ تغيير جميع القائمين على العمليات الثقافية والتعليمية حتى في حال التأكد من عدائهم للتطرف. فلعلهم، وهذا المرجح، ينتجون الكراهية وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً!
فالمدخل الأساسي والأهم والذي لا يمكن أيضاً تجاوزه في مواجهة الكراهية والتطرف هو الثقافة والتمدن، فعندما يكون كل من العنف والتطرف والكراهية منبوذاً ومكروهاً في المجتمع، ينحسر ويكاد يختفي، ويقتصر على أقلية من الخارجين على المجتمع أو الخارجين منه، وهذا يخفض مستوى المواجهة والتوتر ويجعل الكراهية تقترب من جرائم السرقة على سبيل المثال. وفي جميع الأحوال، فإننا نستطيع أن نقلل العنف والكراهية بنسبة كبيرة جداً بمنظومة التمدن والسلوك المدني الذي يحمي المدن ويرتقي بها ويجعلها بيئة للسلام والأمن، وهذا يشمل أيضاً الجريمة والحوادث المرورية والضغوط النفسية والاجتماعية والاقتصادية.
إن الطبقات الوسطى المشكّلة للمدن والتمدن تملك في العادة (أو يجب أن تملك) رؤية واضحة واعية للحياة والمكتسبات التي تريدها. وبسبب الفجوة الكبيرة بين ما ترغب فيه وبين الإمكانات المادية للفرد من أبناء الطبقة الوسطى، فإن المجتمعات والطبقات تتصالح وتتعاون على منظومة من التشريعات والبرامج والمؤسسات والسلوك وأسلوب الحياة، وعقد اجتماعي ينظم ويدير هذه المنظومة وفق ما يحقق أهداف الفرد وسعادته ويحميه. وهكذا كانت الفردانية والديموقراطية والثقافة والفنون والجمعيات والنقابات والأحزاب والمبادرات الفردية والإبداع، وكانت أيضاً حالات من القسوة والتطرف والجريمة والانحراف.
يفترض أن نظام المدينة يصلح نفسه بنفسه، فإذا تُرك العقد الاجتماعي المنبثق أساساً من الفردية يعمل، فإنه ينتج حلوله الخاصة بقدر من الحيوية والتطور والتراكم يجعل المشكلات والعيوب تتناقص، فالطبقات الوسطى تحتاج أن تنشئ نظاماً اجتماعياً وثقافياً وسياسياً يحقق تطلعاتها ورؤيتها واحتياجاتها بأفضل مستوى ممكن، ولأجل ضمان هذه المنجزات وتطويرها، أنشئت المجالس البلدية والجمعيات المهنية، والمسارح والفنون والآداب، ونشأ المجتمع المدني ليوفق بين مطالب الفرد وحمايته وبين وجهة الحكومات والشركات، ولأجل أن تحقق الضرائب التي يدفعها المواطنون عائداً حقيقياً في حياتهم وتطلعاتهم، ولكن ضمانة حماية هذا العقد الاجتماعي وتحقيق أهدافه تأتي من الفردانية. فالأغلبية المعبرة عملياً عن المدينة والديموقراطية يجب أن تحمي الأقليات والأفراد، وأن تتيح لهم العمل والنشاط لأنهم بمبادراتهم وبقائهم على الأقل يضمنون عدالة الديموقراطية والأغلبية، ويجعلون النظام قادراً على الرقابة والتغيير والإصلاح. فتغييب الفرد يؤدي حتماً إلى الاستبداد وفساد الديموقراطية نفسها. وبذلك، فإن المدن تنشئ نظاماً اجتماعياً وثقافياً دقيقاً ومتوازناً، يحمي حقوق الناس ومصالحهم وخصوصيتهم، ويمنحهم أيضاً الدفء والانتماء، ويجعل الخروج على المجتمع أمراً شاذاً مرفوضاً، تماماً كما تتشكل حالات من الرفض والصدمة في الريف والبادية لأنماط من السلوك والثقافة تبدو متقبلة وأصيلة في المدينة.
والأكثر شذوذاً في المدن هو «التطرف»، وما ينشأ عنه من عنف وصخب وفضول وتطفل وتشدد. وهكذا، فإن بين التطرف والتمدن عداوة كبيرة، تجعل التمدن الضمانة الأساسية لمواجهة العنف والتطرف وتحقيق الأمن.
فليت العرب يستبدلون بشتم التطرف مساعدة أهل المدن وأطفالها على المشي واللعب في أمان والمشاركة الثقافية والاجتماعية في مدنهم وأحيائهم والعمل والتفكير بأنفسهم، وأن يجدوا قريبا منهم حدائق ومسارح ومجالاً للإبداع. وأعتقد أن ما ينفق بلا فائدة على مواجهة التطرف يكفي لبناء مدن ومجتمعات متماسكة تحب الحياة وتنبذ الكراهية.