من دون تنظير حول أهمية الاحتكام لصندوق الاقتراع، ومن غير مقدمات عن نجاعة العملية الديمقراطية في إنتاج النخب والقيادات، تعتبر الانتخابات العامة بمثابة مخاض سياسي اجتماعي لا نظير له بين سائر الوقائع الوطنية الأخرى؛ كونها معمل اختبار واسع يشارك فيه عامة الناس، وسائر القوى والفئات والجماعات، بفاعلية يعجز عن تخليق مثيل لها أي حدث مشابه. الأمر الذي يضفي على هذه المناسبة، المتكررة بانتظام في البلدان الديمقراطية، أجواءً مفعمة بالحميمية والتواصل والتنافس وشد الأعصاب.
ومع أن الانتخابات البرلمانية تخص الطبقة السياسية في المقام الأول، وتعد حدثاً يخاطب المتسابقين على الفوز بمقاعد مجلس النواب بصورة حصرية، إلا أن هذه المحطة المهجورة على سكة حديد يمر بها القطار مرة واحدة كل أربع سنوات، تخصّ أيضاً اناساً كثيرين تكاد لا تراهم العين المجردة في زحمة المترشحين وصخب الأنصار والمؤيدين، ناهيك عن جمهرة الإعلاميين والمراقبين، وكل الموكل إليهم، إدارياً وأمنياً، إتمام هذه العملية المثيرة للانفعالات، على خير ما يرام.
وفيما تمضي خيول الرهان متثاقلة في أول الأمر، ثم تعدو مسرعة على المضمار عندما تنطلق صافرة البداية، وهي مثقلة بالتحسبات والحسابات الانتخابية، وحائرة بين أفضل القوائم المتاحة، وأجدى التحالفات الموضوعية، تتقدم قطاعات اجتماعية من الهامش، وأحياناً من هامش الهامش، نحو الممرات الجانبية الموصلة إلى قلب مسرح الانتخابات، من دون جلبة أو خفر، كي تأخذ حصتها العادلة من أطباق المقبلات المرصوصة حول الطبق الرئيس فوق مائدة العملية العامرة بما لذ وطاب.
وليست الانتخابات بدلالاتها السياسية موضوعنا اليوم، وإنما هوامش هذه العملية المهمة جداً، لشرائح مهنية متواضعة، وأرباب مصالح صغيرة، وقطاعات غير مرئية بوضوح، كون هؤلاء هم الأكثر غبطة بالانتخابات البرلمانية، وأكثر المعنيين ابتهاجاً بهذه المناسبة المنتظرة على أحر من الجمر، لما تنطوي عليه أساساً من فرص ولو مؤقتة، وعوائد سريعة متفرقة، وليس لما توفره من حضور غير ذي بال لهم، على الخشبة المكتظة بالفعاليات السياسية والنجوم وذوي المكانة الاجتماعية.
نحن نتحدث هنا عن أوساط وفئات مهنية لا حصر لها، ذات مصالح مادية قائمة على ضفاف العملية الانتخابية، ولديها اعتبارات خاصة بها، تفوق أهميتها ما لدى الراغبين في الفوز بلقب سعادة النائب، ونعني بهؤلاء أصحاب المطاعم والحلويات، ومتعهدي الحملات الانتخابية والولائم والحفلات، والخطاطين والعمال، وطواقم الماكينات الانتخابية، ومراكز الدعاية والإعلان، والمطابع والصحافة الورقية والمواقع الإلكترونية، وغير ذلك من الذين تعود عليهم الانتخابات بمكاسب مجزية، تزداد كلما امتلأ المشهد بأعداد أكبر من المترشحين.
هؤلاء هم من ابتهجوا على الفور وارتفعت توقعاتهم، منذ لحظة الإعلان عن حل المجلس النيابي، من دون أن يدور في خلد أي منهم أسف على مجلس هشم صورته بيديه، أو يساورهم أمل في أن يتجاوز أداء المجلس الجديد مستوى أداء سابقه؛ فهذه ليست أولويتهم، ولا الانتخابات في حد ذاتها محل اهتمام هذه الفئات أصلاً، فالمهم لهم إجراؤها في وقت هم أحوج ما يكونون فيه لرؤية قوة دفع تحرك العجلة الاقتصادية لديهم.
هكذا، تبدو الانتخابات النيابية حدثاً سعيداً طال انتظاره بالنسبة لكثير من المواطنين غير المسيّسين، المتشوّقين لإجراء هذه العملية، وكذلك استمرارها إلى أطول مدى ممكن. كما تبدو الانتخابات أيضاً مناسبة تستحق الحفاوة من الجميع، وتدعو حقاً إلى البهجة الوطنية، كونها أداة خاملة، لا تعمل إلا في أوقات متباعدة، الأمر الذي يمكن معه القول إن المبتهجين أكثر من غيرهم بواقعة الانتخابات التي صارت على الأبواب، هم غير المهتمين بنتائجها السياسية المباشرة.
وإلى أن تطلق الهيئة المستقلة للانتخاب صافرة البداية، وتنجلي صورة المعركة الوشيكة عن معطياتها ومفاجآتها ونتائجها المحتملة، تستحق الأجواء السائدة لدى المبتهجين على ضفاف هذه المناسبة، المواتية للتوقعات المسبقة في أوساطهم المتحرقة لنيل حصة مستحقة من فتات الكعكة المغرية، التنويه بهذه الحفاوة المشروعة، وتبرير أسبابها المنطقية، وتذكير مئات المترشحين أن هناك من يمنّي النفس ويعد العدة للدخول عليها كشريك مضارب، والاستثمار في مثل هذه السانحة الطيبة.