تمهل عزيزي القارئ. لا تغضب. لا تسارع إلى اعتبار الكلام جارحاً أو مسيئاً. أنا أيضاً ابن بلد مفكك يدفعه سياسيوه إلى الهاوية. اسمح لي بأسئلة بسيطة. هل هناك شعب عراقي واحد أم أننا أمام شعوب عراقية حشرتها خرائط سايكس- بيكو في سجن عائم على النفط؟ هل هناك شعب سوري واحد أم أننا أمام شعوب سورية؟ هل هناك شعب لبناني واحد أم أننا أمام شعوب لبنانية؟
راودتني هذه الأسئلة العام الماضي حين نمت في المنطقة الخضراء بعد يوم بغدادي طويل التقيت خلاله الرئيس فؤاد معصوم ورئيس الوزراء حيدر العبادي وآخرين. شعرت أن مفاتيح القرار لا تقيم في مكتبَي الرجلين، وأن مصير العراق يتقرر خارج مؤسساته المرتبكة والمتداعية ولو حصلت على منشّطات أميركية أو إيرانية. ترددت يومها في الكتابة بمثل هذه الصراحة، لأن كثيرين اعتبروا أن ثمة فرصة أمام العبادي بعد التجربة الصعبة مع نوري المالكي.
كنا نتوهم أن ما يرتكبه تنظيم «داعش» الإرهابي على أرض العراق سيدفع القوى السياسية والحزبية والميليشياوية في بغداد إلى شيء من التعقل. حصل العكس تماماً. أغلب الظن أن أبو بكر البغدادي شديد الاغتباط بالمشهد الحالي في بغداد. وربما وجد في الفشل الصارخ الذي تؤكده أحداث العاصمة العراقية، عزاء بعد الضربات الموجعة التي تلقاها تنظيمه على يد التحالف الدولي والجيش العراقي.
كشفت أحداث المنطقة الخضراء فشلاً عراقياً مريعاً لم يعد ممكناً تعليقه على مشجب نظام صدام حسين أو الاحتلال الأميركي. إنه فشل المسؤولين والسياسيين العراقيين والأقوياء الجدد في عهد ما بعد صدام، فضلاً عن أنه فشل القوى الخارجية التي تتمتع بنفوذ في العراق وفي مقدمها إيران.
منذ 2002 أتابع الوضع العراقي من بغداد وأربيل محاولاً جمع الروايات وفهم ما يجري. سأشركك عزيزي القارئ في بعض ما يمكن أن يسمعه الصحافي من سياسيين منخرطين في اللعبة العراقية حين يضمنون عدم ذكر أسمائهم.
قال: «انتصر الشيعة ولم يصدقوا انهم انتصروا. وهزم السنة ولم يصدقوا أنهم هزموا. تولى الشيعة عملياً السلطة واستمروا في التصرف كمعارضين. تعاملوا مع الدولة كأنهم سيغادرون غداً. انتقل السنة عملياً إلى المعارضة لكنهم استمروا في التصرف كأصحاب حق مقدس في الحكم وتوهموا أنهم سيعودون غداً. كل فريق يريد دولته لا الدولة التي تتسع للجميع. أضاع الشيعة فرصة تاريخية حين امتنعوا عن التنازل قليلاً لمصلحة منطق الدولة، وهو ما كان يمكن أن يحمي انتصارهم. أضاع السنة فرصة تاريخية حين امتنعوا عن التنازل لمنطق الدولة الجديدة، وهو ما كان يمكن أن يضبط خسائرهم».
أضاف: «صدقني أن عملية النهب التي يتعرض لها العراق أكبر بكثير مما تعرضت له روسيا غداة سقوط الاتحاد السوفياتي. تسطو الميليشيات العراقية على الدولة كأنها تسطو على قافلة غريبة. شراهة فظيعة. وسياسات متعصبة من كل الجهات. سأقول لك كلاماً قد لا تصدقه. أنا أمضيت عمري أعارض صدام حسين وأطارده. يجب أن أقول. كان صدام يأخذ موارد العراق ليوظفها في مشروعه الاستبدادي المجنون. ينهبون العراق الآن من أجل تضخيم حساباتهم وحسابات أولادهم. هل تصدق أن مسؤولين في الدولة يتحدثون عن بلايين الدولارات الضائعة من الموازنة، وكأن الأمر حادث عادي أو عابر. فساد أبناء بعض المسؤولين الحاليين والسابقين يشبه فساد عدي ابن صدام».
وقال آخر: «هذا الكلام لك لكي تعرف الوضع على حقيقته. هناك بين السنة من لا يستطيع رؤية القرار العراقي في يد رجل شيعي، خصوصاً إذا كان يتصرف بأسلوب نوري المالكي. وهناك بين الشيعة من يريد تسديد فواتير التاريخ أي معاقبة السنة على إمساكهم تاريخياً بقرار العراق. وهناك بين السنة والشيعة من لا يزال يحلم بإعادة الأكراد إلى بيت الطاعة وحرمانهم حتى من الإقليم الذي أعطاهم إياه الدستور».
وأضاف: «أخطر ما في الأمر أن مفاتيح المصير العراقي موجودة حالياً في أيدي رجال متعصبين ومتوترين ومعظمهم لا يعرف العالم. لا علاقة لهم بفكرة الدولة. ولا المؤسسات. يريدون حصة في الجيش. وفي القضاء. وفي الإدارة. والسلك الديبلوماسي. يوفرون الحماية للممارسات المذهبية ثم يطلّون منددين بالمحاصصة. يحمون شبكات الفساد ثم يطالبون بالنزاهة والشفافية. رجال لا يقبلون بالآخر شريكاً. ولا يعرفون معنى الاحتكام إلى الدستور وشروط الخروج من الأزمة الاقتصادية الطاحنة. العبادي أضعف من أن يقلب مسار الأحداث. تجربته حاسمة بالنسبة إلى مستقبل العراق. والمستقبل مظلم».
يمكن الحديث عن فاشلين كثيرين في العراق: أميركا. الأمم المتحدة. إيران. لكن الفشل القاتل هو فشل الطبقة السياسية العراقية. في سورية أيضاً يمكن الحديث عن فاشلين محليين وغير محليين.
يقول المتشائمون إن المشكلة ليست في فشل عراقيين بل في فشل العراق نفسه. وإن الأمر ينطبق أيضاً على سورية وكذلك على لبنان. يقولون أيضاً إن لا عودة إلى العراق الذي كنا نعرف. وإن لا عودة إلى سورية التي كنا نعرف. وإن الحدود الجديدة ترسم بالدم. الدور الكردي المتوقع قريباً في استعادة الرقة وغيرها من «داعش» يعزز الاعتقاد بانتهاء سورية المركزية لمصلحة الأقاليم والإدارات.